شبح وحكايا – دعاء الجيوسي

بقلم: دعاء الجيوسي

نُشر هذا المقال على موقع مركز حنظلة للأسرى والمحررين

عندما يُحكَم إغلاق الكيس على رأسك وتُستنفر كل خلايا جسدك لاهثةً وراء نفس تُجاهد لإلتقاطه يبدو في هذه المرحلة البحث عن الأكسجين الذي كان وصوله لرئتيك في سابق الأيام عملية ميكانيكية ليس لجهازك السمبثاوي أي فضل فيها كبحث عن عيون المها في بلاد الكاثاي…مُستحيلة تبدو مهتمك لا ينفعك فيها همة عالية ولا حُسن تدبير القدر والحظ وأسنان سجين سابق أحدثت ثقباً صغيراً في كيس رأسك هي من تُسعِفك ببعض هواء لا يخلو من رطوبة ورائحة عفن كتلك التي تنضح بها جثة في بدء تحللها….حينها تختلط عليك الأمور فلا يظل في مخيلتك بشر على صورته ولا جماد على حالته….

تسمع همس الراحلين في أذنك وتراهم أجساداً…يكلمك الكرسي وعامود الشَبْح…والقيد الدامي وأنت وما تتركه لك اللحظة من فُرص لإلتقاط الحديث فهمه أو تحويره..

فالكرسي يُحدثك عن آلاف ضباط المخابرات الذين تربعوا فوقه كالسفاح جالساً على سماط طعامه فوق أجساد بني عبد شمس بينما عامود الشَبْح يتوسط دكة مقهاً عامراً يبتسم برزانة يرفع نظارته المستلقية على أنفه يُعَدّل من هيئة طربوشه يتخد سمة وصفة الحكواتي ويسرد لك مايلي :

كان يا مكان يا ثابت الروح والجِنان….يا دامي الكف والبنان….يا آخر من تبقى من بني الإنسان….

على ظهر كوكب التعب…حيث الهمُ والنصب…

كانت بلاد تسمى فلسطين…أرض لبن وعسل….خضرتها يانعة…فتنتها فاقعة….صبية لا تهرم…وفرس برية في مضمار سبق لا تُهزم…كانت تحيا بفطرتها…على السجية الأولى تفتح قلبها للسماء تتلقى منها شارة وبشارة….على مدار سنين عدلت بين البنين لم تُنَمِط أحداً في قالب العرق والدين….

ولنفح عبيرها ورِقة أثيرها سال لعاب الطامعين… فأتوها بالسيف والحتف…سلاف وطليان…فرنسيس مسكوب وألمان وشراذم اليونان…فرس ظنوا أهلها خرسٌ وعميان…

قاومت مليحتنا الحسناء….تخضبت شِفاها نبيذ نصر…شمس فجر…وتجرعت هزائم ودماء….

يا أيها المشبوح على ناصية الأمل هل ترغب بالمزيد أم أشبعك السرد وبدأ الخدر يضرب الزند…

ولأنك في زاوية الألم لا ونيس ولا جليس تستجدي عامود الشَبْح أن يظل على هيئته حكواتياً ثرثاراً يُقصر الليالي الطوال فتناجيه بلطف : قُل وأسهب ليس لدي ما يشغلني عنك….يُداعب توسلك هذا نرجسية القاص تنتفخ أوداجه وتجود عقيرته…..

بعد قرون وغزوات هزائم وأنتصارات أحزاناً وإغتباط…أتى لهذه البلاد قوم أخلاط…لا نسب يجمعهم ولا أخلاق تعصمهم….لديهم كتاب إسمه التوراة حُرّفَ تلمود ثم تناخ وبنادق وجنود….

لغتهم هجينة…إنسانيتهم عنينة….قيل أنهم عبدوا في ما مضى عجل من ذهب….

…قدسوا القتل يستخفهم الجرم يستحلون الدم تُسكرهم عذابات البشر لا بنات العنب…

أتو للفاتنة المليحة راودوها بكل نقيصة وقبيحة فأبت لعالي الشرف خطيئة أو دنيئة…فغروا الفاه أنشبوا في عُذرية لحمها ألف ناب وأمضوا عليها شريعة الغاب…

ولشرعتهم الهمجية أحلاف في مشرق الدنيا ومغربها ولهم من جلدتكم وعترتكم ذيول وأذناب….أما بنو المليحة وهم المنحدرون من طَيب الرحم وطاهر الأصلاب…فلهم رب شريعته عدل…عطاؤه جزل ولهم قلوب كالجبال راسيات…

قاوموا الغزاة والبغاة والطغاة القتلة والقساة بنو الجلدة المطبعين وأراذل المتحالفين ولا زالوا يتوافدون لحضن أمهم شهداء… وهؤلاء لا أعلم عنهم شيئا سوى أنهم صفوة الله من خلقه عُمار الأرض حماة العرض….

أما من أنا بقصصهم عليم وعلى عذاباتهم شاهد مُقيم فهم من صُلبوا هنا إلى جواري….

أنا يا دام صمودك عامود حديد من عُمق جرزيم مقدود صقلتني يد كنعانية وأسندتني إلى باب سور عكا… حرستُ المدائن حميتُ إبل الظعائن…لعصور راقبتُ السور والدور شهدتُ ميلاد الشمس وإنبثاق النور

لم أخن عهدي ولم أُسّعِر خدي….

إلى أن أتتني عُصب أثيمة…زنيمة…قال شُذّاذها إني رمز لمعاداة السامية…..أنكر المحرقة والمشنقة فيَّ بعض هرطقة ثُم قالوا إني شيوعي…أؤمن بالمنجل والمطرقة…

ضحكت حتى صدعت رؤسهم الأغبياء أأعادي السامية وأنا وَسام من ذات الأرض بُعثنا…إن سام أبي…ثم إني ضحية المحرقة ولم أقارف في حياتي هرطقة…أما شيوعيتي فهي ليست كما يفهم العوام أنا كادح منذ بدء الخليقة عندما كان أهلي يزرعون أرض المشاع معاً ويأكلون معاً أنا أبن أرض إشتراكيتها بالسليقة….منذ خمسة ألاف سنة سبقتُ كومونة باريس قبل أن يطال النظرية ما طالها من تدليس….

المهم أنهم فشلوا في إدانتي فسجننوني هنا لأنهم قبضوا علياً مُتلبساً وأنا أُسنِدُ السور وأُسَرّب النسور…بعد فترة من سجني قرروا الإفادة مني فصلبوني إلى جدار عرفت أن صخوره مسروقة من بيت لحم فاطمننت أن لي بها قرابةً ورحم وبتنا رفاق نشّدُ لبعضنا العزم.

وعندما بدأ أبناء الارض يقعون أسرى في قبضة الهمج كان يأتون بهم للشَبح على جسدي …أول الأمر كان الوافدون يمقتونني وبعد فترة علموا أنني منهم وهم مني فتقربوا مني باحوا لي بالأخبار والأسرار وأسماء الثوار…فبت معجماً لأسمائهم…شاهداً على بلائهم….

وسأخبرك ببعض من حكاياهم…

أول من شُبح إلى جسدي شاب إسمه عدنان…مليح وسيم قسيم…كان فولاذاً لا يُفَل ونسراً لا يُذل أمه نقطة ضعفه يلهج بذكرها عند الصبح والأصيل… بعده أتت جفرا سنديانة شعرها فاحم طويل… هزمت الموت بجسد ذاوٍ نحيل…تلاها في ذات المكان محمد ومعين وعمر وإسماعيل…واحدهم لم يبكِ بعد ألف سوط ولكن العَبرة خنقته عندما تذكر حبيبته حين إنتزع من بين يديها نحو الموت….أتاني هنا شباب كالورد وأجمل…كالفينيق وأنبل…عبروا البحر من أجل الفجر وصار أسمهم الدوريات…

أُنظر هنا لقد حفر المشبوحون أسماء محبوباتهم على صفحة وجهي بأظافرهم…والله إنهم آلموني ولكنني إستحييت أأشكو ألماً سببته خدشة أُظفر أمام من جُلِد وسحق….شُنَقَ وصُعِق…

أنا هنا يا صائد الجنود يا عابر الحدود….يا أبدي الصمود شهدت ألف ألف قصة وبلعت ألف ألف غصة…لشباب قضوا في الجوار..لفتيات كالفراشات صُلين بالنار…لأباء قتلهم الشوق وأمهات قضين خلف الطوق….لعشاق تفرقوا….

إن ما رويته لك جُل الحسرة ونصف العَبرة….فإن أردت المزيد دونك رفيقي هذا القيد المدلى أمامك فلديه حَكايا ومآثر ومفاخر…فأصغ إليه….أطل السجان…تَسمر العامود وصمتت القضبان وبدأ السوط يُنذر بِثبور وموت…

رُفع السوط…إختنق الصوت…غادر الجلاد وعدنا للحكواتي السجين….

في غشاشة الصبح…مع رعف الجرح قال عامود الشَبْح…

أنا يا ملح الأرض….يا معطي قلبك للبلاد نافلة وفرض ، شربت دماء لو كانت مُداماً لأثملت أبا نواس وأفقدته الحواس…

تحتي هنا نزف أبو الفحم…وتكوم الراعي أكداس عظم…هنا ذوت روح العكاوي وذاب اللحم….عزيزي المشبوح إني اليوم غير رائق المزاج فمي مُرٌ كمن كرع من ماء أجاج…إن أردت المزيد فدونك هذا المُدلى من الجدار لا يغرنك شكله والعث والصدأ يعلوه…فهو راوٍ حاذق يُخزن الحكايا مُذ إلى الجدار علقوه.

صرير عالي أزيز وإحتكاك ثم هدوء تلاه صوت قاص جديد قال القيد :

يا سيد الأسماء ومُنَسَب الأباء….في البدء أرجو أن تعذر ركاكة بياني ورطانة لساني فلغتكم التي باتت لغتي لا تزال بحورها عميقة لم أسبرها وفيها فنون كلم لم أَخبُرُها…

أنا يا رفيقي في الداء وقسيمي في بغض الأعداء خرجت للدنيا من رحم جبال اللورين…طوعني حداد من الفرنسيس برم بزوجه متشائم من بُرجه….ولسوء الطالع شَكَلني سلسلة تذمرت ثم حمدت الله أنه لم يعطني هيئة المقصلة….المهم يا سرمدي العذاب وُمُشَرِع للفجر ألف باب…نُقلت من بين يدي صاحبنا الحداد….إلى وكر القهر والإستبداد لا تعجب ، إلى الباستيل أخذوني وعلى جداره علقوني فشهدت بلايا وسمعت حكايا إلى أن اعتمل المرجل وفاض الكيل بعد طول ليل فداهم الفرنسيس الحصن لم يمنعهم قدرة إنس ولا معاجز جن…وبين الفرنسيس جاء خبيث دسيس عرفته من قبعة صغيرة يدلي من تحتها ضفيرة….كان الناس في هرج شديد للبغاة يكيلون الوعيد إلا صاحب القبعه . قيود الحديد شَدته وباتت الزنازين مرتعه…سأل عن فنون التعذيب ، دونها في ورقة وضمها لصدره ضم الحبيب ثم حملني وغادر…أسفل شمعدان خبأني بأكداس كتب تعلوها نجوم سداسية دثرني…وبات كل يوم يتلو عليّ أخبار الشتات والميعاد والبلاد ، السبي المزعوم والتسيد على البشر كوعد محتوم….

سمعت في محبسي عند الخبيث عن الكابلاه ورب الجنود….ونقاء دم البشر…لم يقنعني شئ فأنا بالأساس أعلم كل قصة مملكة الخزر….

في أربعينات القرن الماضي من محبسي ذاك أخرجوني على ظهر سفينة ألقوني وفوق شاطئكم هذا سحبوني…في البدء زنروا بي بوابة كيبوتس…ومن ثم مقهى فملهى بعدها أتوا بي إلى هنا…

وفي رحلتي هذه باتت بلادكم بلادي آراها أجمل ما في الدُنى…

في سنواتي العشرين كنت صامت لثقتي أن مُفردي هجين لا يفهمه فلاح عالمه محراث أرض وطين….

وبمرور العقدين ولهول ما رأيت قُلت أسدد لبلادي الجديدة الدين….

فبت قاص السجون…باعث الشجون…أرشيف المأسورين رفيق رقيق على أيادي المشبوحين أحدثهم عن الباستيل فيوقنوا بنصر وفجر وإن بات الهم ممتد طويل…

وفي محبسنا هذا سمعت ورأيت ما لم يحدث في قلعة رعب البوربون ولم تسجله مراجع السوربون….

رأيت الموت إلهاً يعبده مُتصهينة الخزر…سادية لا يتخيلها بشر ولا حجر…

هنا يا خليلي سحقوا العظم….حرقوا اللحم….إقترفوا كل ما يوصل للجنون….لا والله ما هذي بسجون…..هذه محرقة حقة….هؤلاء خلائف النازية والسادية والأساطير المعتقة….

حتى معبودهم لم يقدسوه….تابوتهم المفقود أحرقوه…

هذي السحن الغريبة…واللغة العجيبة….هذي المعتقدات بباطنيتها المريبة…ليسوا إلا موجة في بحرنا ستنقضي….صنو كل معتدي…

تبدد اليأس ….علا ثم هبط كيس الرأس…وجاء من خلفه الصوت مخنوقاً ولكن ذي بأس…إصمت رفيق الحبس….فالخطى منا تقترب والسوط سيأخذ دورته ليعد كل منا لخلوته….ولنا بقية حديث لن تخبو شعلته…

دخل السجان…غربان المنية تَحُف جبهته…وبدأت دورة الموت فبلغ الوجع ذروته……