بقلم : الأسير كميل أبو حنيش
اعادة نشره من موقع بوابة الهدف الإخبارية
تشكّل قضية المياه في العالم إحدى أهم وأبرز التحديات التي تواجه البشرية، وتشير مختلف الدراسات المتعلقة بهذه القضية بأن المياه ستصبح أزمة القرن الحادي والعشرين، حيث تشير تقارير دولية صادرة عن مؤسسات الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية عن أرقام ومعطيات مرعبة حول واقع المياه في العالم التي تتعرض للتلوث، مما يشكّل خطراً على حياة البشرية، لأن قرابة 2 مليار من البشر يعانون من شح في المياه، وأن 80% من الأمراض ناتجة عن مياه ملوثة ويموت طفل كل 8 ثوان في العالم بسبب تلوث المياه كما تشير الأرقام الصادرة عن منظمة الصحة العالمية.
إن قضية المياه تعتبر مشكلة العصر وباتت البشرية مهددة في وجودها أكثر من أي وقت مضى إلى جانب المشاكل والأزمات التي يتعرض لها البشر بسبب توحش الرأسمال المعولم والشركات العملاقة التي تبتلع العالم وتعتبر المصدر الرئيسي للتلوث البيئي، ولتلوث المياه والسلة الغذائية للإنسان والتي وضعت علامات استفهام كبيرة حول مستقبل البشرية في العالم.
كما تجري عملية خصخصة مصادر المياه وبيع امتيازات للشركات العملاقة حول العالم تحت شعار” من بمقداره أن يشتري الماء بوسعه أن يشرب وإلا فإنه سيضطر لشرب المياه الملوثة”. وتقدر حاجة الانسان بالمتوسط ل 50 لتر يومياً، ومتوسط الاستخدام الشخصي في أمريكا الشمالية 600 لتر يومياً مقارنة مع متوسط الاستخدام الشخصي في أفريقيا حيث يقدر ب6 لتر يومياً، ويستهلك المولود الجديد في نصف الكرة الشمالي بين 40 إلى 70 مرة مقارنة مع الأطفال في النصف الجنوبي وهذه السب المتفاوتة تؤكد التوزيع غير العادل للثروة البشرية وهيمنة الشركات متعددة الجنسيات على بلدان العالم الفقير، ونهب ثرواتها وضخها إلى دول الرأسمال العالمي.
إن مشكلة التلوث البيئي وتلوث المياه تحديداً يضع تحدي كبير يهدد البشرية في القرن الحادي والعشرين، وقد أوردت الناشطة الكندية ” مود بارلو” في كتابها ” الميثاق الأزرق” مجموعة من المعطيات المقلقة، واستعرضت حقائق معروفة للجميع بما فيها المنظمات الدولية، ومن هذه المعطيات أن حوالي 80% من أنهار الصين و90% من مياهها الجوفية ملوثة، و65% من مياه بنغلاديش و75% من مياه روسيا السطحية و40% من أنهار الولايات المتحدة و46% من بحيراتها ملوثة، وتفيد الأرقام الواردة في الكتاب أيضاً أن 700 مليون صيني يشربون مياهً ملوثة، و75% من الباكستانيين يشربون مياه ملوثة، وأن أكثر من 130 مليون في أمريكا اللاتينية يشربون مياه ملوثة، وأن 75% من سكان هذه القارة يعانون من مرض الجفاف، كما أن كل سكان قارة أفريقيا يشربون أيضاً مياه ملوثة، ويموت 2 مليون طفل هندي سنوياً تحت سن الخامسة بسبب تلوث المياه.
إن هذه الأرقام المرعبة التي كشفت عنها الدراسة تستدعي قرع الجرس ولا يكفي نشر بياناتها في المؤتمرات الصحفية والدولية، والمصيبة أنه لا توجد حلول عملية لدى الدول والمنظمات الدولية لحل هذه الأزمة، وإنما يجري التحذير منها فقط، اما تحلية مياه البحار فهي ليست عملية، وفوق ذلك فهي مكلفة ولا تشكّل حلاً استراتيجياً لأزمة المياه المتفاقمة، حيث توجد أكثر من 12,500 مصنع لتحلية المياه في العالم تنتج حوالي 47 مليون لتر مكعب يومياً، يوجد منها 2000 مصنع للتحلية في السعودية وحدها التي تعاني شح من المياه لولا قدرة الدولة على إنشاء هكذا مصانع لتفاقمت لديها الأزمة المائية ولأصابها الجفاف، ومن المفارقات أنه بدلاً من أن يبحث العالم عن حلول جدية لمشكلة المياه والحد من تلوث البيئة امتدت عملية الخصخصة إلى المياه العذبة في العالم لاسيما الدول الفقيرة إذ تمنح حكومات هذه البلدان امتيازات للشركات العملاقة للسيطرة على مصادر المياه في حين أنها تزود شعوبها بالمياه الملوثة، ويستهلك العالم 200 مليار لتر سنوياً من عبوات المياه المعدنية، وفي الولايات المتحدة وحدها يجري استهلالك 32 مليار لتر سنوياً، علماً أنه بإمكان أمريكا أن يشتري بثمن عبوة معدنية واحدة 4000 لتر من مياه الصنبور، وتسيطر 4 شركات عملاقة على صناعة العبوات المعدنية في العالم، وتحقق هذه الشركات 100 مليار دولار سنوياً، وأهم هذه الشركات شركة “نستل” التي تسيطر على أغلبية هذه الصناعة.
وتشير تقديرات الأمم المتحدة أن 40 مليار دولار من شأنها أن تؤّمن الماء النقي والغذاء وخدمات الصرف الصحي والتعليم الأساسي لكل فرد على وجه الأرض، منها 9 مليارات دولار يمكنها أن تزود البشرية كلها بالماء النقي، وبدلاً من أن يجري استثمار المساهمة في حل هذه الإشكالية يترك الميدان للشركات المتوحشة التي تلوث البيئة وترتكب جرائمها بحق البشرية باسم الحرية الاقتصادية.
وتفيد التقديرات الواردة عن منظمة الصحة العالمية أنه يموت 24,000 إنسان يومياً بسبب الجوع، وأن تكلفة تحصين أطفال العالم الثالث ضد الأمراض لا تتجاوز 5 دولارات لكل طفل، وفي المقابل فإن عدم القيام بذلك يتسبب في موت 5 ملايين طفل كل عام، ويموت ما بين 20-30 مليون طفل كل عام في العالم بسبب تلوث المياه والمجاعات والأوبئة المختلفة والجفاف، هذه هي ثمار الرأسمالية المتوحشة.
وفي الوقت الذي تتفاقم فيه مشاكل العالم تتمركز الثروات في أيدي قلة من البشر، حيث أن 2% من أغنياء العالم يمتلكون أكثر من نصف الثروة البشرية، وفي الوقت الذي تتشدق فيه المجتمعات الغربية بقيم الحرية والعدالة والديمقراطية وحقوق الانسان وتتغنى بأخلاقيات الرأسمالية نشهد هذه الكوارث والجرائم التي تقترفها الشركات العابرة للقارات وحرمان البشر من أبسط حق إنساني لا يمكن لهم أن يعيشوا بدونه، وقد صدق ماركس حين أطلق عبارته الشهيرة ” لقد أتى رأسمال إلى العالم يقطر دماً من رأسه حتى أخمص قدميه”؛ فالبشرية تغرق في أزماتها المتشعبة من جوع وفقر وبطالة وتلوث مياه وتخلف وانتشار للأوبئة والحروب الطاحنة.
وفي هذا الوقت يجري إنفاق مئات المليارات سنوياً على تصنيع السلاح وتطويره وإنتاج المزيد من القنابل النووية والهيدروجينية، حيث تقدر قيمة الأسلحة في العالم 50 تريليون دولار، حيث أن كلفة صاروخ عابر للقارات كفيلة بإشباع 14 مليون جائع في العالم، وكل ذلك يجري على مسمع ومرأى من المجتمع الدولي الذي يدعّي أنه مجتمعاً متحضراً وحراً، إذ تعقد سنوياً مؤتمرات عالمية بحضور الدول الصناعية وتطرح فيها مبادئ السوق الحرة والخصخصة، وبحضور شركات الرأسمال التي ترتكب جرائم بحق الإنسانية، وحقاً كما قال روجيه دارودي ” أن الامبريالية حفرت قبراً يكفي لدفن العالم” .
إن أزمة المياه الحالية هي أخطر من أي قضية أخرى، بل هي أخطر من الحروب، ففي الحروب لا تهلك كل تلك الأعداد من البشر، ولو كان “مالتوس” حياً لأعلن عن ابتهاجه واحتفاله فلم يكن في حسبان نظريته أن تتنبأ بها. فقد اعتبر “أن الأوبئة والزلازل والحروب والفيضانات نعمة لأنها تقلص من أعداد البشر الذين يتزايدون بأعداد مضاعفة أكبر من القدرة على انتاج أمورهم الاستهلاكية”، فهل أزمة المياه العالمية تعبّر عن نرجسية جديدة؟! وهنا نتساءل كيف يمكن لقوى اليسار في العالم وحركات المناهضة للعولمة أن تتجاهل هذه الكارثة الإنسانية الكبرى التي تهدد حياة المليارات من البشر وقتل عشرات الملايين سنوياً. إن قوى اليسار خاصة الماركسية الجذرية منها مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى أن تلتقط هذه القضية وجعلها في سلم أولوياتها وبرامجها وأنشطتها، وعليها أن تتحرك وتقرع الأجراس ونقترح مجموعة من الخطوات:
1. تشكيل ائتلاف عالمي يضم مختلف القوى التقدمية والمناهضة للعولمة والجمعيات والمؤسسات الإنسانية يحمل اسم ” الائتلاف العالمي لحماية المياه من التلوث والخصخصة” يسعى إلى تجنيد الرأي العالمي حول قضية المياه عنواناً لانتفاضة عالمية، ومدخلاً مهماً لاستمرار النضال الإنساني ضد العولمة الرأسمالية.
2. تفعيل الضغط على المنظمات الدولية كالأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية ومجلس حقوق الإنسان والمحافل الدولية لاتخاذ قرارات وإجراءات وإقرار قوانين تحمي المياه من الخصخصة.
3. الضغط على الحكومات والبرلمانات العالمية لسن قوانين وتشريعات تحمي مصادر المياه العذبة من التلوث والخصخصة.
4. العمل على نشر التوعية العالمية بالحقوق الإنسانية المائية، واعتبار هذه الحقوق مقدسة لا يسمح المساس بها.
5. التشهير بالشركات المصنعة للعبوات المائية المعدنية والتنديد بها وتحميلها جزء من المسئولية عن وفاة وقتل ملايين الأطفال، والعمل على مقاطعة منتوجاتها وتحديداً شركة “نستل” العالمية.
6. التنديد بالسياسات العالمية ومهاجمة الدول الصناعية ومسئوليتها عن تبديد المياه وتلويث البيئة.
7. التنديد بتواطؤ الحكومات التي تبيع مصادر مياه دولها للشركات الخاصة في الوقت الذي تدعو مواطنيها إلى ترشيد استهلاك المياه، كما تزودهم بمياه ملوثة.
إن حركات وقوى اليسار في العالم مطالبة اليوم بالتصدي لهذه القضية الخطيرة، وينبغي أن تكون في أجندتها وبرامجها وخطابها؛ فهذه القضية من شأنها أن تجد التفافاً حولها من مختلف شئون العالم التي تعاني من مشكلة تلوث المياه وخصخصة مصادره، وبالتالي القضاء على المليارات من البشر.
انتهى
أحد أبرز قيادات الحركة الوطنية الأسيرة، مسئول فرع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في سجون الاحتلال.