اعادة نشره من موقع مركز حنظلة للأسرى والمحررين
تناول المؤرخ البارز ” ايريك هوبزباوم ” في كتابه ” العولمة والديمقراطية والإرهاب” الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى غير مسبوقة في التاريخ، مسلطاً الضوء على أبرز النقاط التي تمنع تحولها إلى امبراطورية عالمية تهيمن وحدها على العالم، بعد أن استأثرت بالهيمنة على العالم لسنوات طويلة بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، ويشير إلى أن هذا التراجع سببه مجموعة من العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والأمنية والعسكرية، وهذه العوامل كانت إلى وقت قصير أدوات قوة وفاعلة في هيمنتها في هذا العالم قبل أن تتحول إلى نقاط ضعفها لتكبل حركتها وتمنعها من التحول إلى امبراطورية عالمية فضلاً عن التطورات العالمية التي تكبح إمكانية تفردها وحدها بالعالم مهما كان وزنها في إدارة العالم والتحكم بمصيره.
يقول الكاتب ” لقد بات من المؤكد أن الولايات المتحدة أخفقت وسوف تخفق لاريب في فرض نظام عالمي جديد من أي نوع كان عن طريق قوى أحادية مهما بلغت قوة علاقاتها في الوقت الحاضر، حتى لو ساعدها على ذلك قوم آخرون في حلف “. إن هذا الاستنتاج ينطلق من أساس مجموعة من الحقائق الموضوعية للتاريخ التي تمنع استغلال عامل القوة وقدرتها العسكرية والاقتصادية في حسم التطورات، كما ينطلق من مجموعة من الأحداث والوقائع في السنوات الأخيرة التي أثبتت فشل السياسات الامريكية في العالم، فبعد سقوط الاتحاد السوفيتي واختلال التوازن العالمي، وفي أعقاب حرب الكويت أعلن جورج بوش الأب عن النظام العالمي الجديد الذي توج أمريكا امبراطورية عالمية تتفرد بحكم العالم من موقع القوتين العسكرية والاقتصادية والتأثير السياسي والثقافي.
لقد انطلق هذا الخطاب الجديد من غرور القوة والثقة المفرطة بالذات وهو ما جعل أمريكا تتصدى لقضايا عالمية وتغرق في وحولها مثل الصومال ويوغسلافيا واحتلال أفغانستان والعراق وإعلان ما يُسمى بالحرب على الإرهاب، وفشلها في إدارة بعض الملفات الساخنة كالملفات النووية مثل كوريا الشمالية وايران، أو إيجاد حل للقضية الفلسطينية فكل هذه الملفات وغيرها أدت لفشلها وتراجعها التدريجي، وهو ما سمح بخروج قوى عالمية تتحدى إرادتها مثل روسيا والصين وقوى إقليمية في مختلف القارات كإيران وكوريا الشمالية وسوريا ودول أمريكا اللاتينية التي تحدت إرادتها، ولعل أبرز مشاهد على ضعفها وقلة حيلتها هو الأزمة الاقتصادية التي ضربتها في أواخر عام 2008 وكادت أن تطيح باقتصادها وبالاقتصاد العالمي برمته.
ويضيف الكاتب في تأكيده على عدم قدرة أمريكا على التفرد بالقرار ” إن النظام الدولي سوف يبقى جماعياً وسوف يعتمد نظامه على قدرة قواه الكبرى على الاتفاق فيما بينها حتى لو لم تكن أي من هذه الدول تتمتع بغلبة عسكرية”. هذه الحقيقة هي إحدى قوانين التاريخ وليست بمقدور دولة بمفردها أن تهيمن على إرادة العالم، وفي الحاضر يرى الكاتب “أنه ثمة عدد من القوى الدولية القائمة منها من يمتلك الأسلحة النووية كروسيا والصين، ومنها من يمتلك الاقتصاد كاليابان وألمانيا فضلاً عن مجموعة من الدول والتكتلات التي تنازع أمريكا وتعرقل هيمتنها الكاملة على العالم، حتى لو كانت هذه الدول حليفة أو مقربة من أمريكا كالهند وتركيا والاتحاد الأوروبي”. فكل هذه الحقائق تشكّل تحديات بارزة للولايات المتحدة وتجعل منها قوة مقيدة ليس بمقدورها التحوّل إلى دولة كلية القدرة.
ولفت الكاتب إلى ضرورة الانتباه إلى حقيقة تاريخية غاية في الأهمية أفرزت واقعاً دولياً جديداً وظرفاً موضوعاً تعجز أي دولة أن تحل كل أزمات العالم إذ يقول ” منذ منتصف القرن الماضي عبرنا مرحلة جديدة من تاريخ العالم ختمت بها حقبة من التاريخ وما عرفناه خلاله عشرة آلاف سنة، إذ دخلت البشرية مرحلة تاريخية جديدة تماماً بكل ما تنطوي عليه من تحولات عميقة وضعت حداً لظاهرة الامبراطوريات التي عرفها التاريخ”.
ويبرز الكاتب أربعة جوانب ساهمت بها تحولات التقنية الإنتاجية ذات صلة بالمستقبل الدولي، وهي:
1. تطور الزراعة وفن الفلاحة.
2. نشوء المجتمع المدني وظهور المدن العملاقة التي يقطنها عشرات الملايين.
3. استبدال عالم من الاتصالات العالمية المقروءة والمكتوبة باليد أو الآلة بعالم من الاتصالات الشفهية.
4. ما شهده واقع المرأة من تحولات.
إن هذه التحولات قد تركت آثارها العميقة على البشرية ومستقبلها، وأدخلت العالم في حقبة جديدة وشكّلت حداً فاصلاً في تاريخ البشرية، ومهدت الطريق لما يُعرف بمرحلة العولمة التي لا زلنا في بدايتها الأولى، والتي من المرجح أن تفتح الطريق أمام تغيرات جذرية في الخيارات البشرية على صعيد نظرتها العالمية وهو ما يقوض فكرة الإمبراطورية والدولة كلية القدرة.
ويشير الكاتب إلى أربعة تطورات تكمن وراء المحاولات المعاصرة لإحياء امبراطورية عالمية كنموذج للقرن الحادي والعشرين.
التطور الأول، يتعلق في إطار العولمة منذ ستينيات القرن العشرين وما سببته من توترات بين الجوانب الاقتصادية والتقنية والثقافية، فالعولمة حسب الكاتب وفي نموذج رأس مالية السوق الحرة الذي بات الآن طاغياً جلبت أيضاً زيادة رهيبة في التفاوت الاقتصادي والاجتماعي، وقد تؤدي إلى انفجار على الصعيدين الداخلي والدولي.
وبلغة الاقتصاد فإن تمركز رأس المال على مستوى العالم وهو ما يعبر عنه ظاهرة الشركات المتعددة الجنسيات المتمركزة في عدد من الدول الرأسمالية الكبرى وليس في الولايات المتحدة وحدها تمتلك القوة الاقتصادية وأنها تتوزع على مراكز قوى مختلفة، وفي هذا التشابك المعقد لرأس المال عجزت الدول الكبرى أو بالأحرى الحد من قدرتها أن تكون هي اللاعب الوحيد في ميدان العالم الشاسع.
أما التطور الثاني، فهو انهيار توازن القوى الدولية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، ويعتقد الكاتب بأن “التآكل المتعلق بانهيار التوازن العالمي قد بدأ منذ أواخر السبعينيات وصولاً إلى سنة 2002 إذ تنصل الرئيس بوش رسمياً من القوانين الرئيسية لهذا النظام الذي أنشئ منذ القرن السابع عشر لاسيما القانون القاضي بأن على الدولة ذات السيادة أن تحترم الحدود فيما بينها وألا تتدخل في الشئون الداخلية لغيرها، وهذا ما شهدناه في العقود الأخيرة من تدخلات لأمريكا واحتلالها لبلدان، وما حدث في أفغانستان والعراق وتدخلها في سيادة عدد كبير من دول العالم تحت مسمى وذرائع ” الحرب على الإرهاب”، وهذا التطور أغرق أيضاً الولايات المتحدة في الوحول والنتيجة تحوّل العالم إلى عالم متعدد الأقطاب بدلاً من تفردها وحدها في الهيمنة على العالم.
التطور الثالث، يتعلق بضعف الدولة القومية وتراجعها وعدم قدرتها على السيطرة على ما يجري على أراضيها.
إن هذا الضعف ناجم عن تطور العولمة والأيديولوجية الليبرالية الجديدة التي تطالب على الدوام بتقييد الدولة وكبح جماحها، حيث فقدت الدولة القومية مساحة مهمة من سيادتها ومساحتها لصالح السوق والشركات العملاقة وبات مطلوباً منها أن تنحصر وظيفتها في مهام محددة كالأمن وألا تتدخل في الشئون الاقتصادية.
أما التطور الرابع، فيتمثل بعودة النكبات الإنسانية العامة بما فيها التهجير الشامل للشعوب والتطهير العرقي وانتشار الأمراض والأوبئة ومشكلة الاحتباس الحراري.
إن هذه التطورات ليست سبباً لغياب إمبراطورية عالمية كالولايات المتحدة وإنما للمحاولات الدؤوبة من جانبها وفي محاولة فرض هيمنتها ومن خلال منطق القوة العسكرية على العالم، كما أن هذه التطورات يمكن أن تشكّل سبباً لتعاون شعوب العالم فيما بينها لحل مشاكلها، ولا ينبغي أن تشكّل مبرراً للولايات المتحدة أو غيرها من قوى العالم أن تبسط سلطتها وسطوتها على القرار العالم وتهيمن على مستقبله.
ويخلص الكاتب للنتيجة التالية ” إن السلام العالمي وحتى الإقليمي لم يكن في متناول قوة جميع الامبراطوريات التي عرفها التاريخ حتى الآن”. وقد نفهم في هذا الاستخلاص الحاجة الماسة لتعاون كافة الدول والشعوب لحل مشاكلهم، والتغلب على تحدياتها، أما صنع السلام العالمي فيحتاج على مقاربات عالمية وألا يجب أن نخضع لرؤية دولة بعينها أو مجموعة من الدول، ونفهم من ذلك أنه إذا أرادت مجموعة من القوى العالمية المحكومة لمصالحها السيطرة على النظام الدولي فإنه من الصعب الوصول إلى سلام وهو ما يلتقي بالضرورة مع التصور الماركسي والذي لا يرى حلاً لمشكلة السلام العالمي إلا في إطار حل المسألة الطبقية في كافة أنحاء المعمورة.
ويرى الكاتب في معرض تقييمه لإمبراطوريات القرن العشرين “أن بريطانيا اعترفت برياح التغيير قبل غيرها من المستعمرين، ونظراً لأن موقعها الاقتصادي لم يكن معتمداً على قوى استعمارية ولكن على التجارة فإنها تأقلمت أكثر مع خسارتها السياسية، وتأقلمت أيضاً مع أكبر تراجع في تاريخها الأقدم وخصوصاً خسارة المستعمرات الأمريكية سابقاً”.
ويتساءل الكاتب ” هل ستتعلم الولايات المتحدة هذا الدرس أم أنها ستغرق بالتشبث بموقع عالمي آخذ بالزوال عبر اعتمادها على قوة عسكرية سياسية لا تنشر نظاماً عالمياً ولا سلاماً عالمياً ولكن نزاعات، ولا تقدم للحضارة ولكن بربرية “. إن هذا التساؤل الذي يطرحه هذا المؤرخ الكبير هو تساؤل وإجابة في ذات الوقت على الطموح الامبريالي للولايات المتحدة في التحّول من امبراطورية تحكم قبضتها على العالم، فماذا كانت نتيجة هذا الطموح؟ لقد أنتج لها هذا الطموح أسوأ دولة عرفها التاريخ، دولة عظمى ترتدي رداء الحضارة بينما تسكنها روح البربرية.
وينتهي الكاتب إلى النتيجة التالية ” لا يتوقع الرجوع إلى العالم الامبريالي القديم في هذا الظروف، ناهيك عن توقع هيمنة امبريالية أمريكية عالمية مستمرة ليس لها سابقة في التاريخ تفرضها دولة واحدة هي الولايات المتحدة بصرف النظر عن مدى قوتها العسكرية فقد انتهى عصر الامبراطوريات، وسوف يتعين علينا إيجاد سبل أخرى لتقييم العالم المتعولم في القرن الحادي والعشرين”. إن زبدة هذه المقاربة هي الجملة الأخيرة فما هي السبل الأخرى لتنظيم هذا العالم المتعولم في القرن الحادي والعشرين؟، فإذا لم تقم الامبراطوريات والدول الكبرى بدورها في تنظيم هذا العالم، فمن يقم إذن؟ قد تكون الشركات العابرة للقارات أو قد تكون كيانات وهويات إنسانية تشترك في رسم التصورات لمستقبل بشري أو قد تكون عصابات إجرامية عابرة للقارات تتغذى من بقايا الطموح الامبراطوري …الخ.
إن كل الخيارات قد باتت مطروحة أمام المستقبل بما فيها خيار الانتحار الشامل للبشرية، ولكن ما يمكننا ما نتأكد منها في اللحظة الراهنة هو قضيتين الأولى سقوط الامبراطوريات بما فيها الطموح الجامح للإمبراطورية الامريكية، أما الثانية هي دخولنا في حقبة تاريخية ستكون مغايرة تماماً لما عرفته البشرية في تاريخها وهو ما يفتح الباب أمام كافة الاحتمالات.
انتهى
· أحد أبرز قيادات الحركة الوطنية الأسيرة، مسئول فرع الجبهة الشعبية في سجون الاحتلال.