هذا المقال نُشر في جريدة ” الأخبار ” اللبنانية اليوم 17 مايو / ايار ، 2020 ويبحث في التحديات الراهنة التي تواجه الشعب الفلسطيني ، ويعيد موقع شبكة صامدون نشره .
خالد بركات
**
في زمنٍ مضى، كان شعبنا الفلسطيني في الأرض المحتلّة يُعبّر عن دهشته لحال الشعوب العربية التي لا تنتفض ولا تثور في وجه الأنظمة المُستبدّة الغاشمة، وكان يُحرّض أشقاءه العرب على الثورة والتمرّد، ويُدرّبهم على إيقاع الانتفاضة والرفض والقول الصريح. وكان يقول: «انظروا كيف لا نخاف من الاحتلال… وكيف نقاوم؟».
واكتشف الشعب الفلسطيني ــــــ وخصوصاً في الضفة وقطاع غزّة ــــــ بعد قيام السلطة الفلسطينية، وتأسيس السجون والمصارف والأجهزة الأمنيّة وانتشار ثقافة «السلام» والتطبيع والاستهلاك، أنّه مثل الآخرين تماماً، يُمكن إذا واجه الشروط السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية ذاتها، أن يتحوّل إلى «شعب عربي آخر»، ويصير «واقعياً» أكثر يطلب الاستقرار، ويقبع داخل صناديق الصمت والخوف والانتظار.
إنه يخاف من عسف السلطة ومن خسارة الوظيفة. يفضّل أن ينتظر الحلول من السماء، ومن جولات المصالحة الماراثونية، التي صارت مصدر المزيد من الإحباط. صار يحسب موعد وأقساط المصرف والسيارة والشقة. يخاف على العيال وقوتهم ومستقبلهم. إنّ السلطة والأجهزة القمعية، ومعها القطاع الخاص الناهب وكتائب المنظمات غير الحكومية، هي أكبر شركات ومواقع للتوظيف واحتواء البطالة المقنّعة في الضفة وقطاع غزّة. ولا يستطيع الناس أن يقولوا «لا»، لأنّ هذه الـ«لا» تحمل الخطر والمجهول، وقد تكلّفهم الكثير من العناء دونما طائل، ولأنّ تهديد الناس برغيف الخبز أشدّ وأقسى من تهديدهم بالرصاص والسجون الصهيونية.
وفي مثل هذه الفترات من حياة الشعوب وحركات التحرّر، يكثُر الحديث عن الخلاص الفرديّ «وما راحت غير ع الشهداء»، وتختفي قيَم المشاركة الشعبية والثقة بالقدرة على التغيير، من ميادين العمل العام والنضال الوطني، إلّا إذا أصابت السياسة قوت الناس. فالحشود الغفيرة في الضفة المحتلّة، لم تخرج من أجل غزة المحاصرة وهي تحترق بالقنابل أكثر من مرّة، كما خرجت للدفاع عن الحق في الضمان الاجتماعي والمطالبة بالحدّ الأدنى للأجور، وغيرها من حقوق وقضايا مطلبية.
وإذا كان هذا الموقف أعلاه يمكن إيجاد المبرّرات كلّها له (في مقدمتها الفقر والخوف)، فما لا يمكن تبريره هو موقف القوى والأحزاب الفلسطينية، التي تنضوي في إطار «المقاومة الفلسطينية»، وصارت هي الأخرى تتساوق وتبيع مواقفها للطبقة السياسية في رام الله، وتذهب إلى اجتماعات في «مضافة أبو مازن» وتحت رعايته المباشرة. وما لا يمكن تبريره، أيضاً، هو خيانة المثقّف الفلسطيني لدوره التنويري والثوري، الأمر الذي صار جزءاً من الكارثة الوطنية، وبدل أن يحمل لواء النقد والتغيير ويساهم في كسر هيبة الاحتلال والسلطة معاً، أصبح موظّفاً بائساً يرفع لواء التبرير بالتسحيج، ويجتهد في البحث عن الحلول الغلط!
إنّ كلّ القوى والأحزاب الفلسطينية، تقريباً، أصبحت اليوم موزّعة بين عاجزة ومتواطئة تُشبه حال الجامعة العربية. إنّها صورة طبق الأصل عنها: قوى مُشرذمة ومفكّكة وضعيفة، تفتقر إلى الحوار والقيَم الديمقراطية في ممارساتها الداخلية، فكيف ستصنع النظام الديمقراطي؟ وهي لا تملك أيّ مشروع للتحرّر الوطني أو استراتيجية وطنية لحماية القضية من خطر التصفية، بل ولا حتى رؤية للوحدة الوطنية، فكيف تصنع وحدة؟ كما أنها تفتقر إلى رؤية خاصة بحماية الأرض من سياسة القضم والضمّ والمصادرة. كل القوى الفلسطينية مجتمعة، لا تستطيع اليوم إيقاف جرّافة صهيونية واحدة من هدم بيت فلسطيني في بيرزيت، وسحق إنسانٍ أعزل في غزّة… فمن يتصدّى للاحتلال باللحم الحيّ، هي طلائع قوى المقاومة الشعبية والمسلّحة من الشباب الثوري، فقط. بمعنى أدقّ: القوى المنذورة للتغيير والتحرير، تخشى وتخاف من التغيير! تخاف من النقد. (الله يرحمك يا ناجي العلي).
لو كان القرار السياسي في قبضة الشعب الفلسطيني والقواعد المقاتِلة في المقاومة الفلسطينية، لما وصلنا إلى هنا. لو كان القرار في قبضة الحركة الأسيرة الفلسطينية وطليعتها المناضلة، لما وصلنا إلى هنا. لو يصدر القرار عن إرادة شعبية حرّة في مخيّمات الشعب، لما وصلنا إلى هنا.
إنّ الشريحة القيّادية التي تسيطر اليوم على مجمل القوى والحركات السياسية الفلسطينية، أصبحت غارقة في الوهم والعمل اليومي العبثي، تقليدية تقبع في عصور قديمة وتجترّ الكلام عن قواعد العمل السياسي والنقابي، ولا تبني نقابات ولا أحزاباً قوية، مثل حرث الجمال، لا تراكم على الإنجاز، تستسهل القيَم القبائلية والعشائرية في علاقاتها الداخلية والخارجية، تفني قضية الشعب في البحث عن المصالحة العبثية، والبحث عن دورها في مجالس ومضافات المخابرات والأنظمة العربية، وبعضها صار أداة في قبضة المحاور في الإقليم.
يقول الكاتب الإسرائيلي جدعون ليفي، في مقال نشره قبل أيام في صحيفة «هآرتس»: «من يعرف إسرائيل، يعرف أنه لا يوجد أي احتمال لأن تستيقظ ذات صباح وتقول من تلقاء نفسها: الاحتلال غير لطيف، سنقوم بإنهائه. ومن يعرف الفلسطينيين يعرف أنهم لم يكونوا يوماً ضعفاء ومعزولين ومنقسمين، وليس لديهم روح قتاليّة، مثلما هم الآن». جدعون ليفي، الإسرائيلي، يقول الحقيقة هنا. نعم، لا يمكن أن تتغيّر إسرائيل أو تتراجع، إلا إذا أصابتها الهزيمة وجرى سحق كيانها ومشروعها الاستعماري العنصري كلّه في فلسطين والمنطقة. ولا يمكن أن يتغيّر الحال الفلسطيني إلا اذا استنهضت القوى الشعبية والمسلّحة مجمل الحالة الوطنية في الداخل والخارج، وكسرت قواعد الخوف والانتظار وتحرّرت أصوات وحناجر طلائع الحركات الطلابية والشبابية والعمالية والمنظمات النسوية والمثقفين الثوريين والكفاءات والشخصيات الوطنية؛ أي الطاقة الكامنة الكبرى والمحتجزة لدى شعبنا.
لا بدّ من حركة فلسطينية للتغيير والتحرير داخل القوى الوطنية نفسها، حركة تولد من داخل المجتمع الفلسطيني ذاته، وتفرض الإرادة والمطالب الشعبية الفلسطينية بالقوة والتمرّد والعصيان الشعبي، في مجابهة الاحتلال وهذا الهيكل المسمى «الممثل الشرعي الوحيد» الذي يغتصب القرار السياسي والمؤسسات الوطنية لصالح سكان القصور. فالمعركة مع هذه الهياكل، وفي مواجهة التحدّيات والكوابح الداخلية وقوى التجهيل، صارت جزءاً لا يتجزّأ من معركة وطنية فلسطينية شاملة، في مواجهة العدو الصهيوني ووكلائه وحلفائه.
بيان ضدّ المرحلة: الشتات ودوره المصادر
قبل أيام قليلة، أصدرت هيئات وجمعيات فلسطينية في الشتات، بقيادة المنظمات الطلّابية والشبابية الناشطة في عدد من القارّات، بياناً / عريضة، طالبت فيه بالشروع في مرحلة نضالية جديدة تبدأ بتحشيد قوى الشعب الفلسطيني في كلّ مكان، وعزل نهج أوسلو وقيادة «م ت ف»، وسحب الشرعية منها. إنّ الشرعيات الوطنية للدول وحركات التحرّر، تُستمدّ من المصادر «الدستورية» أو «الشعبية» فقط، وهذه سلطة وكيلة للاحتلال وخارجة عن الميثاق الوطني الفلسطيني، وعن كل شرعية شعبية وقانونية. والعالم كلّه بات يعلم أنها «قيادة»، تقادمت وصارت «كادوك»، كما يُقال بالفرنسية.
هذا البيان / العريضة، الذي وقّعت عليه عشرات الهيئات والجمعيات الفلسطينية، ومنها «تحالف حق العودة» في الولايات المتحدة، و«حركة الشباب الفلسطيني» في أميركا الشمالية، و«شبكة صامدون للدفاع عن الأسرى»، وعشرات المنظمات الطلابية في الجامعات الأميركية وفي أوروبا، وقوى شبابية ونقابية في لبنان، ومراكز فلسطينية في أميركا للاتينية، وغيرها وغيرها، لم يرَ النور على أيّ موقع إعلامي فلسطيني يمكن أن تطاوله قبضة السلطة… والسبب؟ إنه الخوف… الخوف من السلطة والخوف من التغيير. الخوف من السلطة وأجهزتها. الخوف من قوانين الجرائم الإلكترونية، والخوف من القمع والعسف وقوى الفساد. الخوف من سؤال البديل الوطني والخوف من المجهول. الخوف من التغيير. الخوف من دفع الثمن. الخوف من الفشل.
ولا غرابة إذن، فحيث لا يوجد حضور للسلطة الفلسطينية وأجهزتها، يكون الإنسان الفلسطيني أكثر حرّية وأكثر قدرة على النقد وتحرير صوته وهويته الوطنية، ربما بسبب الهامش الديمقراطي المتاح لديه من جهة، وعدم ارتباط لقمة عيشه بالوظيفة والمرتّب والمخصّص. ولا غرابة أن تكون أكثر هذه المنظمات الفلسطينية الشعبية والأهلية، خارج نطاق تأثير السلطة وبعيدة عن سطوتها الأمنية والمالية.
وهذا بالضبط ما يجعل، اليوم، للشتات الفلسطيني وللأجيال الفلسطينية الجديدة، دوراً أكبر في عملية التغيير الثوري المقبلة بالضرورة، حين يعلو صوتها وتتمرّد أكثر فتكسر حالة الجمود والركود، التي كرّستها مرحلة مدريد ـــــ أوسلو، الممتدة منذ 30 عاماً حتى يومنا هذا. وسيعود للشتات دوره الطليعي المؤثّر، حين يقوم بدوره الوطني وواجبه في دعم وتعزيز صمود شعبنا في كلّ فلسطين المحتلّة ومحيطها الجغرافي، ويستعيد دوره القتالي ويبني مع نصفه في الوطن وكلّ التجمّعات الفلسطينية، جسور العودة والتحرير… يعود حين يكسر كلّ حواجز وقواعد الخوف والانتظار!
* كاتب فلسطيني