ريتا سامر العربيد، أصبحت تعي تماما معنى مصطلح: “حالة حرجة”. فهي تستطيع الآن وبسهولة يسيرة وضعها في جملة تامة المعنى، بعد أن أدركت قساوة دلالتها. لا أضمن بالطبع وقع استخدام “حالة حرجة” على قلب الفتاة الصغير، لكنها تستطيع القول مثلا: لقد كان والدي في حالة حرجة، بين موت وموت محقق، لكنّه نجا بأعجوبة، لقلبه الشجاع وفرط حبّه لنا.
قد تستطيع اقتباس أيضاً ما قرأته بعدما طبعت اسم والدها حرفاً بحرف على محرك البحث “جوجل” لتعرف ماذا حل به، عندما أحسّت بخطب ما إثر اعتقال (غير) على حد تعبير الجميع. فقد شهدت الصغيرة اعتقالات سامر قبلها، لكن هذه المرّة، لم يجرؤ أحد أن يقول لها حقيقة ما حدث، أو بعضا منها على الأقل.
كتبت ريتا: سامر العربـ .. لم تنه اسم العائلة.. فقد أسعفتها خوارزميات جوجل بتتمة (العربيد). يا له من شعور أبكم، أن يضحى اسم أبيك trend على جوجل للإسراف في البحث عنه. وما إن نقرت الفتاة Enter حتى ظهرت لابنة الثماني سنوات حينها، رزمة من الأخبار، أغلبها تقول: سامر العربيد في “حالة حرجة” إثر خضوعه للتحقيق العسكري في المسكوبية. عنوان آخر بالبنط الأحمر العريض: سامر العربيد يقبع في مستشفى هداسا وفي “حالة حرجة” للغاية.. سطّر آخر العناوين: العربيد في “حالة حرجة” بعد تعرّضه لتعذيب دامٍ في مسلخ المسكوبية.
لم تدرك حينها الاصطلاح، فسألت والدتها عن المعنى، وما كان من والدتها (نورة) إلا الصمت المطبق.
كيف تقنع فتاة رُشِمَت صورة والدها جدران شوارع رام الله، بأن أبيها بخير؟ كيف تثبت لريتا ومينا وجولان أن الهتافات التي تصدح في المسيرات عالياً “من رام الله أعلنّاها.. سامر نجمة بسماها”، هي هتافات عادية جداً، تتغنى بوالدهم فحسب؟ تساءلوا جميعهم الكثير قبل أن يجيبهم هتاف “عّلي الصوت وعّلي الصوت.. وهاي سامر بتحدّى الموت” مبدّدا هواجسهم، وواضعاً الأمور في نصابها حقا، حتى لأطفال تتراوح أعمارهم بين 3 و5 و8 سنوات.
يتراءى لنورة شريط حياتها مع سامر. فبين مدائح العذراء والسلام عليك يا مريم، وبسملة وتكبير؛ شقّ الحب سبيله اليهما، صاهراً حاجز الدين بينهما، وموحّدا إياهما باسمه. كان زواجهما انتصارهما الأول لعلاقة “نبتت كالعشب بين مفاصل الصخر”. أثمر رباطهما المقدس ميلاد ابنتهما الكبرى (ريتا)، والتي تربّت على رفض الحواجز ونبذها. تستذكر نورة كيف رفضت ريتا في إحدى اعتقالات سامر -ولم تكن تتجاوز حينها الثلاث سنوات- الحاجز الزجاجي الفاصل بينها وبين والدها في الزيارة، فضربت السماعة بالزجاج، مريدة كسره، لتضم والدها وتعانقه بما يليق في قلبها من شوق.
كبرت ريتا الآن، وأصبحت تعي “ميكانيزم” الزيارة، وتدرك تماما أنه قد يكون بينها وبين سامر مليون حاجز وكاميرا مراقبة، لكنها تحلم أيضا أن بينهما مواعيد كثيرة وعناقات دافئة، لن تستطيع بندقية سجان استهدافها إطلاقا. فتكتب له الرسائل دوما، وتحدّثه عن انتصاراتها لأجله، وحصولها على معدل 97% في المدرسة، مطالبة اياه بهدية خروجه حرّاً لاحتضانها.
تعيد نورة بناء الذاكرة وترميمها، في محاولة لإصلاح قساوة الحال، مستذكرة ميلاد ابنهما الثاني، مينا، ابن الست سنوات، امتداد سامر في الملامح والطباع. لا تنفك بحساب موعد الزيارة القادم، لتخبر سامر عما آل اليه ميناه، المتجذر بشعوره الإنساني نحو الآخر، والذي يخجل من أكل الفراولة الفارهة وحده أمام أقرانه، مفضلا ألا يجلبها الى المدرسة، ويثير بحَمَارِها اللذيذ والطازج سيلان لعابهم وحفيظة معدتهم للحصول عليها، معبراً لأمه أن ما يزعجه حقاً التزامه بقانون عدم مشاركة الطعام مع الأصدقاء أثناء جائحة كورونا. تختمر الذكريات لدى نورة، بميلاد “الشيبة جولان”، والتي كان ميلادها احتفالية في يوم الأسير الفلسطيني. فقد سمّاها سامر رداً على إعلان بنيامين نتنياهو ضمّ الجولان السورية لما يسمى “إسرائيل”، فجاءت جولان ندّاً.
شريط كامل تقابله صورة سامر في مستشفى هداسا، بعد أن هشّم الاحتلال ضلوعه أثناء التحقيق، بعد أقل من 48 ساعة من اعتقاله، وهو مكبّل رغم دخوله في غيبوبة، يتأرجح على الخط الفاصل بين الحياة والموت. لا يناجيها شيء، سوى كلمات سامر لها، قائلا: “ضلوعي التي هشّمها السجان، يكتنفها قلب قوي يحبك يا نورة، فأنت كما عهدتني، عربيد في عشقك وعشق الوطن. عندما كنت في غيبوبة لم أكن وحيدا، فقد سمعتك تهمسين لي “ابق قويا لأجلنا، وعد الينا”، ولهذا اخترت الحب والحياة. فما دام قلبي ينبض بمن أحب، سأظل أقاوم”.
فبرغم طنين أذنه التي لا يسمع فيها بفعل التعذيب، ونهايات الأصابع والأظافر التي لم تعد كالسابق، واحتمالهما تسريف نزيفه الداخلي من فرط ما ضُرِبَ وشُبِح، وفراق أمه التي انتقلت الى “سماء العجائب” وهي تسأل عنه، ووداعه لها عن بُعْد بمشاهدة جنازتها في تقرير إخباري مُتَلفَز؛ يقبع سامر الآن في سجن نفحة الصحراوي، يقرأ “الحرب والسلام” لتولستوي. فهو لم يعد في “حالة حرجة”، الا أنه لا يزال “حالة حرجة” لم ولن يفهمها الاحتلال قط.
نُشر هذا المقال على موقع وكالة وطن للأنباء