عروس مع وقف التنفيذ
هند شريدة
بشغف غير مسبوق، تشمّر عن يديها، وتقحف التراب الملتصق بالبطاطا، ليس بغرض تنظيفها، وانما لتجميع التراب المتحوصل عليها وحِفظه.
“تراب.. تراب.. صارلي ستّ سنين ما شفت تراب!”
تبحث عن رحم لتزرع فيه الحياة، وترعى عِرقاً أخضر قد يونع منه. ربما أرادت أن تسمّي شتلة باسمها، أو أن تتركها إرثاً يزهر بعد أن تتم سنيها السبعة في نوفمبر القادم، وتخرج للحرية. ربما كانت ستعثر هي والأسيرات على زاوية استراتيجية في غرفة رقم 3، تضع فيها زرعها، لتضربه شمس الساحل وينبت. أو ربما أرادت غرس قناعة لدى الأخريات أنهنّ ونباتهنّ أعلى الكرمل فعلاً، يشكّلن امتداده الطبيعي، تماماً كأحمد العربي، وبهنّ فقط تبدأ حيفا.
ليس التراب فقط ما يستوقف “عواطف” كما تلقبنها الفتيات، بل كل ما يحرك وجدانها، كقصة حب صادقة، أو صورة طفل صغير، أو سورة سيدنا يوسف الأحبّ على قلبها، والتي تجتاح جوارحها في كل مرة تقرأها، لتعزيها، وتسكّنُ آلامها. تستوقفها أيضا الرصاصة المستقرة في صدرها حتى اللحظة، والتي باتت علامة تذكرها بالحكاية من جديد. حكاية الأسيرة أمل طقاطقة، 25 عاماً من قرية بيت فجار، جنوب شرق بيت لحم.
كأي عروس، تجهّز كِسوتها وتتهيأ لموعد زفافها؛ اتفقت أمل أن تلاقي أمها على مفرق مستوطنة غوش عتصيون، القريب من قريتها، والمقام على أراضيها، لتذهبا سويا الى السوق، اقتضاء بالمثل القائل “اللي بيطلعش مع العروس بيلحكهاش”. قابلها مستوطن، فتلاسن عليها، وبدأ يصرخ في وجهها “مخرّبة مخرّبة”، لتفزع “العواطف” منه وتبدأ بالركض، فيمطرها جيش الاحتلال، بخمس رصاصات، تسجّى العروس على إثرها بالدماء، ويُعْلَنُ استشهادها.
ثلاث ساعات وخبر استشهادها ينعق في إذاعات المحتل فرحاً، كانت فيها أمل في غرفة العمليات في مستشفى هداسا، لترميم ما هشّمته الشظايا من رِجلها اليمنى، وتدعيم ما تبقى منها بالبلاتين، ليُحدِثَ الأخير قِصَراً في رِجلها بنحو 2 سنتمتر من الرِّجل الأخرى، فيما استُخْرِجت الرصاصات الأخريات من بطنها، الا واحدة، تموضعت بالقرب من القلب، تذكاراً أبديّاً لها، لم يُسبّب لعواطف سوى المزيد منها.
استُكمِلَ التحقيق مع أمل عقب العملية مباشرة وهي ترقد على سرير المستشفى. وقد حدث أكثر من مرة أن دخل عليها مستوطنون، وهي مكبّلة بالأصفاد، ليمسكونها من شعرها، ذاته الذي حنّته استعداداً لعرسها، ويضربونها أمام عَرّابي فاشيتهم: جنود الاحتلال. قضت أمل ست شهور وهي على الكرسي المتحرك، ولم يتشفع لها فستان الزفاف، ولا كرت عرسها أمام محكمتهم العنصرية، كما أنهم لم يستجيبوا لطلب المحامي في جلب تسجيلات كاميرات المراقبة في مكان حادثة “التبلّي”. وعليه، حكمت محكمة الاحتلال اللاشرعية على أمل سبع سنين عجاف في الأسر، تماماً كما حصل مع سيدنا يوسف.
العديد من الإنجازات سجّلتها أمل في الدامون، بعد أن كانت نائبة ممثل المعتقل في سجن هشارون. فقد أنهت امتحان الثانوية العامة-التوجيهي، والتحقت بدورات عدة، وهي تقرأ الآن كتب التنمية البشرية وحقوق الإنسان، وتتطلع لدراسة القانون في جامعة بيرزيت. خضعت أمل مؤخراً لعملية جراحية لإزالة البلاتين من رِجلها، ذلك الذي كان من المفترض نزعه بعد عام من عمليتها الأولى، لكنها عانت لستّ سنين من سياسة الإهمال الطبي المتعمدة بحقها.
حفظت أم أمل الزغاريد التي كانت ستطلقها يوم زفاف ابنتها في عرس مع وقف التنفيذ، لتطلقها من جديد يوم حريتها في 30 تشرين الثاني/ نوفمبر القادم. لن تحادث والدتها بعد ذلك الحين صورة أمل التي وضعتها في المطبخ، وهي تلفّ ورق العنب الذي تحبّه أمل، بل ستكلمها شخصياً، ولن تكتفِ بالجديلة التي هرّبتها لها أمل من شعرها لتلمسه، بل ستتحسّسه وتشمّه وتقبّله حقيقة، ذات الشعر الذي شده المستوطنون في المستشفى، وحنّته قبل 7 سنوات استعداداً للعرس. تتوعد أم أمل بالغناء معها أغاني الأعراس الشعبية، تماماً كما تفعل هي مع الأسيرات في المعتقل، لتزفّ أمل هذه المرة عروس الحرية.
نُشر هذا المقال على موقع وكالة وطن للأنباء