رحلة قصيرة إلى المُعتقل
شرف أبو بكر
بعد عملية الاعتقال الوحشية، التي جرت على غير العادة، وفي ما يقارب الساعة الثانية بعد الظهر من يوم الأربعاء في الثالث عشر من مايو العام السابق، أوصلتنا سيارة نقل الأسرى “الخميس” هناك حيث الظلام…. وبعد إجراء دخول المركبة إلى الداخل و إنزالي منها، رأيت أمامي مشهداً لمرتفع جبليّ شاهق، وكأنه يرحب بي و يحتضنني .. لطالما تساءلت من الذي اختار هذا الموقع ليكون مكاناً لبناء سجن، أو مركز تحقيق؟ كُتل إسمنتية شاذة تشوه هذا المشهد لجبلٍ تكسوه الخضرة والأشجار، إنهم دخلاء على كل شيء، ويحل الخراب في كل مكان يدخلونه. هناك في قاع الجبل الذي احتضنني أحد جبال الكرمل الشاهقة حيث ُمركز تحقيق الجلمة “كيشون”. بعد وقت طويل من الانتظار أمام مركز التحقيق، بدأوا بإدخالنا واحد تلو الآخر..
في الداخل بدأت الإجراءات المعتادة من الفحص الطبي، حتى تغيير ملابسنا وإبدالها بملابس “الشاباص” بُنية اللون ومن ثم اقتيادنا إلى الزنازين،
لم نلبث في زنازين المعتقل بضع دقائق حتى بدأوا بإخراجنا إلى مكاتب التحقيق بسرعة..
وهنا بدأت المعركة، فعلاً كانت معركة حقيقية يخوضها أسرى محررين مع خنازير الشاباك، أولئك الذين لم يُخلق في قلوبهم أي ذرة من الإنسانية. استمرت جولات التحقيق ساعاتٍ طوال، كُل واحد منا يحاول حصاره أربعة أو خمسة محققين. ما بين الصراخ، والإهانات، والسب والشتم.
كنت أستمع لصوت رفاقي في غرف التحقيق المجاورة وهم يصرخون في وجه المحققين وكأنهم أسوداً تزأر، أقسم أنهم كانوا يمدونني بالقوة والصلابة أكثر وأكثر وأيقنت تماماً أن لدي رفاقاً لا تخشى شيء سوى الله. بعد كل الأسئلة وتلفيق الاتهامات الموجهة إليّ كانت أجوبتي جميعها تقتصر على أن لا علاقة لي بأيٍ مما ذُكر.
في صباح اليوم التالي “الخميس” أعادوني إلى الزنزانة مُنهك الجسد والروح، أذكر أنها كانت الساعة الخامسة صباحاً، ذهبت في نومٍ عميق؛ بسبب الإرهاق والتعب الذين غلبا على جسدي ولم أقدر حتى على التفكير في أي أمر، عدا قلبي، فهو مليء بالدفء و الطمأنينة الإلهية، فقد كانت دعوات أُمي تصلني، وتُلهمني الصبر أكثر على بطش السّجان، لم ألبث إلا ثلاث ساعات غارقاً في نومي، وإذ بصوت “الكلبشات” وباب الزنزانة يُفتح من جديد، السجان يناديني باستعجال للخروج إلى مكتب التحقيق، بعد أن جزر في يداي “الكلبشات” وغطاء على عيناي كي لا يتسنى لي رؤية أحد، صعد بي إلى مكتب التحقيق، وضعني على كرسي الشبح و قيدني مرة أخرى ويداي للخلف. بدأت جولة أخرى من جولات التحقيق البائسة واستمرت أيضاً ساعات طِوال وأنا على نفس الحال. حتى يئس المحقق مني ومن أجوبتي المتكررة حيث صاح بصوته للسّجان بأن يَحضُر ويعيدني إلى الزنزانة.
في الزنزانة مع أن الإرهاق يتملكني أمعنت النظر جيداً في جدرانها وأرضيتها، إنارتهُا، وتفاصيلها، عُدت بمخيلتي إلى عام ٢٠١٣ حيث مكثت هنا أيام عديدة، كانت أيام ثقال لكنها مضت. واليوم بعد سبع سنوات والعديد من الاعتقالات أعود من جديد إلى هذه الزنازين. هنا حيث الرائحة كريهة جداً، حيث الماء فاسد هذا إذا تمكنت من الحصول عليه، ولون الزنزانة العَتِم. حيث الحَمام المكشوف على كاميرات المراقبة أو على الأسير الذي يشاركك الزنزانة إن وُجِد، حيث البرد القارس بالشتاء والحر الشديد في الصيف، حيث الإضاءة القاتمة عامية الأبصار. ناهيكَ عن الحيطان المُتعِبة إذا ما سندت ظهرك عليها فهي خَشنة جداً، أما الفراش إن كنت في زنزانة منفردة وتنام على الأرض أو مزدوجة وفيها “أبراش” فلن تعرف للراحة فيها طعم.
نعم هذا كان قدرنا وبهذا رضينا، فكرت كثيراً ولم أجد سوى الله تعالى في هذه الأزمة خير نصير. بدأت بالمناداة على السجان “سهير، سهير” أضرب الباب بكل قوة. هو يعلم من ينادي بالضبط ولكن كـ نوع من الإذلال يتأخر بالرد، أتى بعد مدة وفتح الطاقة من باب الزنزانة وسألني ماذا أريد وأجبته بأني أريد “القرآن كريم”، كان السجان عربي “درزي” ولم يستجب لطلبي. في اليوم التالي عاودت الكَرة وطلبت من سجان آخر نفس الطلب، هم يعلمون جيداً أن القرآن يخفف عنا ما نحن به هناك ويتعمدون المماطلة في الاستجابة لطلبنا هذا بالتحديد. بعد المرة الرابعة أو الخامسة والصراخ عليهم، أحضروا لي القرآن. كان خيرَ صديقٍ لي، ساعدني كثيراً، كُنت أخرج من دوامة التفكير بالتحقيق وبماذا سيحصل وأنا اقرأ الآيات وأستعين بالله وأصلي الصلوات وأدعو لله بالفرج القريب لي ولرفاقي. وهنا تذكرت الكثير من القادة العِظام ورسخت صورهم ومقولاتهم في عقلي طوال المدة فالشهيد عمر القاسم الذي أمضى الكثير في زنازين التحقيق واستشهد وهو يردد سأقبل أرض زنزانتي لأنها جزء من وطني، والشهيد إبراهيم الراعي الذي استشهد وهو يردد “الاعتراف خيانة” والكثير من الأسرى أمثال الأبطال وليد دقة وكريم يونس والبرغوثي نائل -عمالقة الصبر-وكيف حالهم بعد قضائهم أكثر من ثلاث عقود في سجون الظُلم. سأكون أقوى وأصلب عندما أتذكر هذه الجبال، سأقوى أكثر وسأخرج من هنا لأجل أمي وأبي لأجل رفاقي في الزنازين المجاورة.
أنقضت أيام الجمعة والسبت وكنت قد أخذت قسطاً كبيراً من الراحة بالنسبة للمحقق المسؤول، وفي صباح يوم الأحد، إذ بباب الزنزانة يُفتح من جديد ويُطلَب مني الخروج لمواصلة التحقيق وهكذا عدة أيام حتى أيقن كلاب المخابرات أن ليس لي أي علاقة بمقتل الجندي في بلد القسام يعبد و انه كان اتهاماً باطلاً لا أساس له من الصحة، وبدأوا بجولاتٍ أُخرى من التحقيق بعيداً عن مقتل الجندي، بفتح ملفاتي القديمة واستخراج اعترافات موجهة لي، ولفقوا لي تُهماً انا بريءٌ منها كما الاخيرة ، وقمت بإنكارها جميعاً. بعد أيام كان قد انتهى التحقيق معي عند المخابرات، وبدأوا بأخذ إفادتي عند الشرطة، وأنا أعلم مسبقاً بعد انتهاء التحقيق عند المخابرات يتسنى لي رؤية أسرى آخرين، ويُمكن نقلي من زنزانة منفردة إلى أخرى يوجد فيها أسرى قد يكونوا أيضا أنهوا التحقيق، أذكر انها كانت ليلة العيد، طلبت من السجان نقلي إلى زنزانة أخرى وإلا سأقوم بالأضراب عن الطعام والدواء، حيث كنت استعمل دواء للصعوبة بالتنفس. وافق على طلبي وتم نقلي إلى زنزانة جماعية، كانت فرحة الأسيرين في تلك الزنزانة كبيرة بأن حضر أحدهم إليهم وكنت أحمل معي العديد من السجائر وكنت قد أقلعت عن التدخين منذ مدة، فهناك تُحدد إدارة السجون عدد السجائر للأسير في مراكز التحقيق ولا تقبل بإعطاء الأسير أكثر من سيجارتين اثنتين طوال اليوم، أخذا السجائر وبدآ بإشعالها واحدة تلو الأخرى وخُضنا بالحديث الطويل الذي لم ينتهِ إلا عندما سمعنا أحدهم يُكّبِر تكبيرات العيد، ساد الصمت في المكان وأنا موقن أنهم شعروا بالحُرية مثلي. استمعنا جميعا إلى ذلك الصوت البعيد الخافت وبدأنا نحن أيضاً نضع أفواهنا قُرب باب الزنزانة السميك ونردد تكبيرات العيد بأعلى صوت حتى يستمع أخرون من الأسرى لنا لعلهم يشعرون ما شعرنا به.
في صباح اليوم التالي تم نقلي إلى زنزانة أخرى بحُجة أنني أُسبب الإزعاج على حد تعبير السجان الحقير. مضت عدة أيام أخرى، وأخيراً خرجنا أنا ورفاقي إلى الحُرية، هذا الشعور الذي لطالما لمسته وأحسست به في اعتقالاتي السابقة. هو يُلمَس فعلاً، شعور الحرية يضاهي كل مشاعر الفرح في العالم يضاهي كل الأشياء، فهُنا العزة والكرامة والحرية وأشياءٌ كثيرة لا تُشترى ولا تُباع، خرجنا من تلك “القبور”، خرجنا إلى الحياة مرة أُخرى، سنذوق طعمها سنعيشها بكل حُب وسنحيا من بعد كربتنا ربيعاً وكأننا لم نذق طعم الألم.
ملاحظة: اختصرت تفاصيل كثيرة لا يمكن أن أذكرها جميعها، لكن بالمجمل من لم يدخُل إلى مراكز التحقيق هذه لم يرَ من بشاعة السجن إلا القليل.