الحرية المنقوصة: فعاليات يوم الأسير الفلسطيني
ثائر أبو عياش
في 17 نيسان من كل عام يُحي الشعب الفلسطيني يوم الأسير الفلسطيني، واختير هذا التاريخ للاحتفال بيوم الأسير كونه مُرتبط بتحرر أول أسير فلسطيني محمود بكر حجازي في أول عملية لتبادل الأسرى بين الفلسطينيين والاحتلال الصهيوني وقد تم إقرار هذا اليوم من قبل المجلس الوطني الفلسطيني عام 1974 باعتباره يومًا فلسطينياً وطنياً تعبر فيه الجماهير عن حرية الأسرى وتساند فيه قضيتهم الإنسانية العادلة.
منذ ذلك اليوم كان ولا يزال يوم الأسير الفلسطيني يوماً يحيه الشعب الفلسطيني بشكل سنوي في كل أماكن وجوده في الوطن والشتات وكل مكان بالعالم، بوسائل وأشكال متعددة؛ ليبعثوا رسائلهم مُستمرين بتذكير العالم بالأسرى الفلسطينيين، وما يتعرضون له بشكل يومي من أبشع أساليب العذاب والانتهاكات داخل سجون الاحتلال الصهيوني، هذه العذابات التي تجاوز من خلالها الاحتلال كافة القوانين والمواثيق الدولية والإنسانية، وفي مقدمتها القانون الإنساني الدولي، واتفاقية جنيف الرابعة، ومبادئ حقوق الإنسان، والنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
ويتعرض الأسرى الفلسطينيين على مدار اعتقالهم لمختلف أشكال العذاب الممنهج الذي يمارسه الاحتلال عليهم، المتمثل: بالاحتجاز في ظل ظروف غير إنسانية، والتعذيب النفسي والجسدي، والحرمان من حقهم في الزيارة من قبل غالبية ذويهم وأهاليهم، بذريعة الحرمان الأمني؛ والاعتقال الإداري دون محاكمة، والعزل القصري الانفرادي الذي يمتد أحيانا لسنوات عدة، والإهمال الطبي المتعمد، واقتحام غرفهم على أيدي وحدات قمع خاصة ورشهم بالغاز، والتفتيش العاري؛ إضافة إلى لجوء دولة الاحتلال إلى شرعنه ممارساتها ضدهم بإصدار سلسلة من القوانين العنصرية، وفي مقدمتها قانون “إعدام الأسرى”، كل هذه الأساليب التي يحاول الاحتلال من خلالها كسر إرادة الشعب الفلسطيني وتقييد هدفه بالتحرر وانتزاع حقه بالوجود الإنساني.
بذات السياق، في كل عام تؤكد مؤسسات حقوق الإنسان المحلية والدولية على حق الشعب الفلسطيني بالحرية وخصوصاً حق الأسرى الفلسطينيين بالحرية وأن اعتقالهم هو سلوك عنصري إجرامي يمارس ضدهم، ومن أهم هذه المؤسسات والشبكات هي شبكة “صامدون”، التي أطلقت سلسلة فعاليات في دول مختلفة عبر العالم من ضمنها فلسطين المحتلة، ومن أبرز فعاليات صامدون وقفات تضامنية مع الأسرى، وزيارات إلى بيوت الأسرى في الأرض المحتلة، ونشاطات إعلامية، وبث رسائل إلى الأسرى داخل السجون، وندوات ومحاضرات حول تاريخ الحركة الأسيرة وغيرها من الفعاليات.
وضمن تلك السلسة من الفعاليات قامت شبكة صامدون بزيارة عائلات الأسرى ذوي الأحكام العالية في بلدة بيت أمر، وهم الأسير مضر أبوديه، موسى اخليل، موسى الطيط، فقد قامت المجموعات الشبابية في بلدة بيت أمر بزيارتهم باستمرار ضمن نشاط الجلس الشبابي، ولكن هذه المرة كانت مختلفة خصوصاً في بيت الأسير “موسى الطيط” لأول مرة يجلس النشطاء مع والدة الأسير، عند رؤيتنا باتت أقرب للحزن وربما حبست دمعة تفجرت عند دخولنا، جلسنا بعد الترحيب ولم تنتظر بدأت تبكي وتقول: بحاول اصبر نفسي بالعياط، كانت تقول وتنظر إلى صور ابنها الأسير المتناثرة في كل مكان كأنها زنزانة صور، وأكملت تقول: يارب أشوفه قبل ما أموت يارب اكحل عيوني بشوفته قبل ما أموت والله يا خالتي بظل اعيط أصبر حالي.
في تلك اللحظة تذكرت غسان كنفاني عندما قال: ” الدموع لا تسترد المفقودين ولا الضائعين ولا تجترح المعجزات! كل دموع الأرض لا تستطيع أن تحمل زورقا صغيرا يتسع لأبوين يبحثان عن طفلهما المفقود”، ولكن بتلك الدموع كانت تحاور قهرها وظلمها وربما كانت الخيط الذي يمسك بالصبر خوفاً من الهروب، وكانت بتلك الدموع أيضاً تحاور الموت الذي لا تخافه كموت بل تخافه لأنها لن ترى ابنها قبل الرحيل الأبدي، إن الموت هنا ليس مجرد مصير حتمي، بل هو الخوف، الخوف من الفقدان، ثلاثة عشر عاماُ من فقدان ابنها داخل سجون العدو، وعند خروجنا كنا مربكين جداً ذاك الإرباك الذي عاشه أغلب الشبان لأنهم أسرى سابقين، كنا تائهين نبحث عن كلمة واحدة تعيد فينا ذاك الهذيان ولكن عند الباب جعلتنا مجانين عندما قالت: “خليكوا افطروا عنا يا خالتي وأمانة تزورنا والله بنتونس فيكم!.”
ربما بهذه الكلمات حاولت أن تبحث لمبرر عن الألم بداخلها لتشعر بوجود موسى معها من خلالنا، ولكن لن يطفئ ذلك الألم إلا بتحرر موسى، وتحقق حلمها بأن ترى موسى متزوج ولديه أطفال، وأن تواجه الموت بتكحيل عينيها المطفأتان بالدمع برؤية ابتسامة موسى وبيت موسى وعائلته وحياته الإنسانية.
يقول البير كاموا في روايته “الغريب”:
” لكنا، نضعكم في السجن لهذا الغرض بالذات.
كيف، لهذا الغرض ؟
أجل، الحرية. هو ذا المقصود. إننا نحرمكم من الحرية.
وما كنت قد فكرت من قبل في هذا، فأقرت بالأمر. قلت له:
أجل، وإلا أين ستكمن العقوبة؟
نعم، أنت تستوعب الأمور أما الآخرون فلا. بيد أنهم ينتهون جميعهم إلى التنفيس عن أنفسهم بأنفسهم”.
إنها الحرية، الحرية الأبدية التي يحرمنا الاحتلال منها، تلك الكلمة التي أصبحنا نبحث عنها في كل تفاصيل حياتنا، عند النوم والأحلام وفي الصباح، في العمل، في المدرسة، في الجامعة، في الشارع، في صحن الطعام، وفي الزواج. الحرية التي لخصها والد الأسير موسى الطيط عندما التقينا به عند مدخل باب البيت” يعمي احنا كلنا مساجين، ولكن بداخلي كنت أدرك أن حرية عن حرية بتفرق.”
استكملنا الزيارات لعائلات عدة وفي كل منزل نجلس شاهدين على قلوب مسها الحرمان وحرارة الشوق، وتكونت بداخلنا معاني الحرية والانتظار. وهناك في مخيم العروب تجمعنا والتف حولنا أطفال عيونهم تعكس إصرار شعبنا على الحياة، حملنا صور أسرانا وأكدنا هناك وعلى بضع أمتار من النقطة العسكرية الجاثمة على مدخل المخيم بأن العودة حتمية وأن المخيمات محطات انتظار وأن الأسرى يسكنون فينا ويزرعون في الطفل قبل الشيخ معاني النضال والصمود وأن كل الأثمان زهيدة مقابل الوطن، ففي اليوم التالي أكدت كوبر لنا التي استقبلتنا فيها حنان البرغوثي “أم عناد” شقيقة البطل المعلم عمر البرغوثي “أبو عاصف” لروحه الرحمة مستهلة حديثها “أهلا وسهلا بكم في قرية الشهداء والأسرى” أن كل زوايا هذا الوطن تحتضن أبناءه الشهداء وأن كل الأزقة خبأت في ثناياها أسرانا البواسل. وفي بلدة “يعبد القسام” قضاء جنين المحتلة تسمّر الناس حول حقيقة واحدة بأننا “ننتصر معاً ولا ننتصر إلا معاً”، واستقبلتنا أمهات الأسرى الأطفال متلهفات لسؤال في يوم الأسير عن أحوال أبنائهن، معاتبات أن لهنَّ أطفال خلف القضبان لم يتجاوز فيهم الشبل عمر السابعة عشر، يسطرون فصول جديدة في رواية النضال الفلسطيني المستمر، مؤكدات أن كل ما نملك هو فداء للوطن وثمن زهيد مقابل العودة والتحرير.