في مواجهة العدوّ وسياسة التّهميش
الحركة الأسيرة: المدّرسة الثوريّة والنُواة الصلبة للمُقاومة
خالد بركات
لكل أسير وأسيرة في فلسطين المحتلة تجربة نضاليّة خاصّة وقصّة إنسانية تُروى، ومع كل حكاية وتجربة فرديّة تتُشكّل التجربة النضاليّة والتاريخية (الجماعيّة) للحركة الأسيرة الفلسطينيّة في سجون الكيان الصهيوني، فالحركة الأسيرة هي الخط الأول المُتقدم للمقاومة الفلسطينيّة والمدرسة الثورية التي تواجه كيان العدو، وجها لوجه على مدار الساعة. ذلك لأن المسافة الفيزيائيّة التي تفصل الأسير عن سلطة السجان هي مسافة الصفر. وبعد توقيع اتفاقيات أوسلو الخيانيّة وجد الأسرى أنفسهم أمام معادلة أكثر تعقيداً، إذ أصبحوا في مواجهة السجان الصهيوني من جهة، وأمام سياسات التهميش والإقصاء على يد سلطة الحكم الذاتي من جهة أخرى
تلتقي تجارب الأسرى الفلسطينيين في إطار حركة تحرر وطنية واحدة (بغض النظر عن الهوية السياسيّة والفكرية للأسير) في مواجهة عدّو واحد، وداخل ساحة نضالية مشتركة. إنها مثل جداول الماء التي تنبُع وتسير من كل الجهات في فلسطين المحتلة لتصب معاً في مجرى النهر الواحد. وستظل الحركة الأسيرة، النموذج الأوضح للوحدة الوطنيّة في الميدان، رغم “الانقسام” والخراب الذي انتجه أوسلو ولم يسلم منه أحد. يتحول السجن، بالنسبة للثائر، ساحة عراك جديدة وليس نهاية أو فشلاً للتجربة النضاليّة
إنّ السجون تترك آثارها العميقة ليس على الأسير/ة وعائلته وحسب، بل على القرية والحيّ والمصنع والمخيم. واذ ينجح الكيان الصهيوني في عزل جزء كبير من طليعة الشعب الفلسطيني داخل السجون والمعتقلات، بالقوة المسلّحة، غير أنه يفشل في منع تأثيرهم المباشر (المتبادل) مع حركة الجماهير
في البدء كانت الكلمة .. الحُرّة
إنّ الكلمة المكتوبة والتجارب الموثقة للمناضلين والمبدعين من الكتاب والأدباء والمثقفين ( الأسرى ) الشاهد على تاريخ ونضالات الشعب الفلسطيني وعلى جرائم العدو الصهيوني في السجون. انها عملية توثيق يومية للنزيف المستمر وللجريمة المستمرة في آن واحد. إنها فعل مقاوم ضد النسيان والتهميش، كما أن إنتاجهم الأدبيّ والثقافيّ ومؤلفاتهم السياسيّة والأكاديميّة والفنيّة لها فعّاليتها القصوى وتأثيرها على “الخارج” وتحديدًا على الطليعة الوطنية من الشباب والطلبة من الأجيال الجديدة، بخاصّة إذا توافرت فيها عناصر الإبداع والتجديد وإذا تناولها النقد الجاد بعيدًا عن معايير التعاطف أو التضامن الشكليّ
ثمّة تجارب للمناضلين الثوريين داخل السجون تُشكّل مصادر أساسيّة للثورة والوعي الحقيقي، والقوة الأخلاقيّة التي تستمد منها حركة الشعوب وقوى التحرر طاقة مُتجددة لا تفنى، تولد داخل ” قلاع الأسر ” نحو الفضاء الرّحب. إنها مدارس ثوريّة في السيّاسة والأخلاق والعلاقات الانسانيّة، وينابيع للإبداع والإلهام والتأمل، يغرفُ منها الأدباء والكتاب والفنانين والمؤرخين، فكل سيرة نضاليّة تصيب المجتمع بأسره، وتؤثر فيه تأثيرًا عميقًا، خاصّة إذا تحرّرت الحكايات والرّسائل من السجن في تلك ” الكرّاريس” و ” الكبسولات ” المُهرّبة نحو الميادين والشوارع والمدارس والأزقة بعيًدا عن زنازين العزل وصناديق الصمت الضيّقة. وقيل قديمًا : للأفكار أجنحة لا تحبسها الأقفاص الحديديّة ولا تحتاج إلى جواز سفر
من داخل سجون الإستعمار البريطاني في فلسطين تحررت قصيدة “سجن عكا ” التي كُتبت بالفحم على جدران الزنزانة وحفرت كلماتها الخالدة في ذاكرة الشعب الفلسطيني. تعتبر هذه القصيدة “ديوان” الحركة الأسيرة الفلسطينية، فالمكتبة العربية تضُم اليوم عشرات الدراسات والرّوايات والمجموعات القصصية ودواوين الشعر والرسوم والفنون وعشرات الوثائق السياسيّة والترجمات والمقالات القيّمة التي وصلتنا من داخل السجون.
إنّ قيمة تلك الكُتب والأوراق والرسائل ليس في أنها خرجت من السجن أو في رمزيتها وحسب بل لأنها قرأت ودَرَست كيان العدّو وتعرّفت على لغته وتناقضاته وأحواله عن قرب. أي في قيمتها الفكرية والفنية، فالأسرى هم أكثر جهة تعرف العدوّ الصهيوني وتدرك مكامن قوته وضعفه بالتجربة الحية المعاشة والاحتكاك المباشر وليس فقط بالقراءة النظرية والتأمل والخيال.
الكُرّاسات والكتب المُهربة من داخل السجون بعد العام 1967 ساهمت في بناء الوعي الثوري عند الأجيال الفلسطينية وفي بناء كوادر الحركة الوطنية. كتاب مثل “فلسفة المواجهة وراء القضبان” يُعتبر أحد أهم الوثائق التاريخيّة والفكريّة التي قدَّمت للمناضلين والمناضلات جرعات من الوعي والمعرفة لفهم طبيعة النضال داخل الأسر ومواجهة التحقيق والتعذيب والتعرف على أساليب الأجهزة الأمنيّة الصهيونيّة. هناك عشرات التجارب التي جرى توثيقها في كتب مثل “بطولات في أقبية التحقيق” وتجارب فردية للمناضلين تساهم في بناء الوعي الثوري.
أصبحت روايات وليد دقة وبسام خندقجي وكميل أبو حنيش وآخرين تشكل مرحلة جديدة متقدمة في ما يُعرف ب” أدب السجون” إذ تجاوز الأسرى الكتابة عن السجن كموضوع وحيد. وتعدد انتاجهم الثقافي والمعرفي إلى المسرح والقصة القصيرة والدراسات الأدبيّة وغيرها.
الإعتراف خيانة
تُشكل تجربة الشهيد ابراهيم الرّاعي الذي ترجم شعار ” الإعتراف خيانة ” نموذجاً ثورياً فذاً في “مدرسة الصمود”، فهذا المناضل إستشهد في سجن ” الرملة ” تحت التعذيب في 11 إبريل/ نيسان عام 1988 وكانت المواجهة التي خاضها في أقبية التحقيق دليلاً وهادياً للمناضلين في فهم العلاقة بين الوعي الثوري والإرادة الصلبة في أقبيّة التعذيب الصهيونيّة.
تجربة الشهيد ابراهيم الرّاعي الذي قرر الصمود حتى النفس الأخير أصبحت نموذجاً للصمود ونقلت شعار الاعتراف خيانة من حيز بعيد إلى حالة واقعية ثورية، وانها تُشبه الى حدود التطابق قصة المناضل الجزائري الشهيد ” العربي بن مهيدي ” في المقاومة والتضحية والتحدي أمام الجلاّدين وكيف تحول “العربي” إلى بوصلة ثورية وصفحة خالدة في ذاكرة وضمير الشعب الجزائري. كان العربي بن مهيدي أحد أبرز قادة ثورة الجزائر التحريرية وإستشهد في 4 مارس / أذار 1957 ، واعترف الجنرال الفرنسي بول أوساريس لصحيفة لوموند، بعد عقود طويلة، أنه هو من قتل بيده العربي بن مهيدي.
إن حقيقة تلازم الوعي والارادة توازيها حقيقة أخرى هي تلازم الاستعمار والسجون. فمنذ تأسيس الكيان الصهيوني في فلسطين عام 1948 دخل معتقلات الإحتلال الصهيوني نحو مليون فلسطيني وفلسطينية. ولا يوجد عائلة واحدة في الأرض المحتلة لم تعرف تجارب السجن والاعتقال، وهذه حقيقة يجب أن تقودنا إلى نتيجة طبيعية وحيدة: لن تنتهي السجون إلا بفناء الاستعمار الصهيوني وازالة كيانه الاستيطاني العنصري في كل فلسطين
أوسلو: طعنة مسمومة في ظهر الشعب والحركة الأسيرة
شكّلت اتفاقيات أوسلو واقامة سلطة الحكم الذاتي 1994 ضربة موجعة ومسمومة في ظهر الحركة الأٍسيرة الفلسطينية وصادرت إلى حد كبير صوتها ومكانتها النضاليّة. حيث انتزعتها من “الشارع” وحبستها في “وزارة الاسرى” كما جرى تهميش صوت الحركة الأسيرة بالتوازي مع تهميش صوت المرأة والطلبة والعمال والطبقات الشعبية في الوطن والمنفى
يقول الأسير الكاتب وليد دقة “تكتسب الثقافة في أوساط الحركة الأسيرة أهميّة ليس بوصفها أداة صمود وطني فحسب، لا سيما وأن الخطاب الثقافي الفصائلي، كثقافة (اعرف عدوك) مثلاً، انقرض بغالبيته بعد اتفاقية أوسلو، وما تبقى منه لم يعد قادراً على تفسير الواقع الوطني، خُصوصاً واقع الأسرى وتعقيداته. وإنما بصفتها، أي الثقافة، وسيلة للصمود الذاتي وضرورة للحفاظ على التوازن العقلي والنفسي بهدف الإبقاء على الذات كقيمة إنسانية وأخلاقية أولاً، وكقيمة وطنية ثانياً“.
تخلّت قيادة منظمة التحرير عن عشرات الأسرى الفلسطينيين وخاصة أسرى فلسطين المحتلة 1948 وتركتهم في السجون. بعضهم يقبع في الإعتقال منذ نحو أربعة عقود، مثل المناضل كريم يونس، ووليد دقة، وآخرين من مختلف مناطق فلسطين. جري تهميش موقع الحركة الأسيرة والتعامل معها كأنها عبء على “القيادة الفلسطينية” فيما العكس هو الصحيح. إنّ هذا التخلي من قبل منظمة التحرير لم يقتصر على أسرى “الداخل” بل لم يسلم منه المناضل جورج ابراهيم عبد الله المعتقل في السجون الفرنسية منذ العام 1984
وعليه، يجب النظر إلى الحركة الأسيرة بوصفها القيادة الوطنية الموثوقة والمنسيّة، والنواة الصلبة للمقاومة الفلسطينية وليست مُجرّد مجاميع من المعتقلين الذين لا حول لهم ولا قوة. ففي داخل السجون الصهيونيّة يوجد عقول أكاديميّة وعلميّة وقادة لهم تجارب عسكرية ونضاليّة مميزة في مواجهة الاحتلال وقيادات ثورية وازنة تحظى باحترام وثقة الشعب الفلسطيني كله، يخافها العدو الصهيوني ويحسب لها ألف حساب…لذلك يعتقلها!
إنّ إستعادة الحركة الأسيرة الفلسطينية لحصتها وحقها في القرار السياسي واسترداد موقعها الرّيادي في الحركة الوطنية الفلسطينية يشترط أن يستعيد الشعب الفلسطيني مفاتيح قضيته الوطنية ويهزم مشروع أوسلو التصفوي والقوى التي ترعاه وتقوم عليه، وهذا يعني بناء جبهة وطنية موحدة يقودها الأسرى الفلسطينيين ومن يحملون السلاح في مواجهة العدو وطلائع الحركات الشبابية والطلابية والنسوية في فلسطين والشتات.. وليس طبقة أوسلو المهزومة في مقاطعة رام الله المحتلة