الكرامة كوسيلة ضغط: إطار مضاد لمفاوضات الأسرى الفلسطينيين
بقلم: ريما نجّار
لا يزال النهج الأميركي-الإسرائيلي في التفاوض مع الفلسطينيين منحرفًا جوهريًا عن مفاهيم العدالة وكرامة الإنسان. ففي حين يُنظر إلى الرهائن الإسرائيليين كضحايا يُرثى لهم علنًا، يُعامَل الأسرى الفلسطينيون كتهديدات لا كأرواح يجب احترامها – أرقام تُدار لا بشر يُقدَّرون.
في هذا الواقع غير المتكافئ، تعزز الوساطة الأميركية السرديات الأمنية الإسرائيلية، متجاهلة الانتهاكات المنهجية: إعادة الاعتقال، والتعذيب، والاحتجاز إلى أجل غير مسمى، وتجريم الألم الفلسطيني والتضامن. تصبح السجون أداة حرب ديموغرافية لا وسيلة عدالة.
ومع ذلك، حتى في هذا السياق، تعيد المقاومة الفلسطينية صياغة مفهوم الأسر – لا كهزيمة، بل كتمرد. عبر الإضرابات عن الطعام، ورفض محاكم الاحتلال، وأخلاقيات “الصمود”، حوّل الأسرى أجسادهم إلى أطر للرفض. هذا ليس بقاءً سلبيًا، بل فعل سياسي واعٍ. كما يصرّح الأسير أحمد سعدات الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين: “سِجننا ليس نهاية نضالنا – نحن ضمير شعب يرفض أن يُمحى.”
هذا الإطار المضاد يرفض الانخراط فقط بلغة الضحية. إنه يطرح الأسرى كفاعلين سياسيين – مهندسي الاستراتيجية، لا مجرد رموز لها. إنّ أجسادهم تتحول إلى نصوص مقاومة، تعلن إنسانيتها من خلال معاناة تُوظف عمداً. تبدأ الأسس الأخلاقية لهذا النموذج ليس بما يجب المطالبة به، بل بما يجب رفضه.
الرفض ليس عنادًا – بل هو استراتيجية. يرفض الإطار المضاد دبلوماسية الرهائن المصمَّمة كعرض ردعي، ويدين “الإنسانية المُعسكرة” حيث تتحول المساعدات إلى مراقبة، ويرفض المحو الرمزي الكامن في ممارسات مثل الدفن المجهول وإعادة الاعتقال. فهذه الأفعال تسلب الأسرى من ذاكرتهم وكرامتهم في محاولة لمحوهم من السجل التاريخي.
الرفض هنا مقصود، متعدد الطبقات، وغير قابل للمساومة. وقد ردّت حركة “حماس” والفصائل المتحالفة معها على صفقة تبادل الأسرى ووقف إطلاق النار المقترحة من ترامب بروح تفاوضية – ولكن دون خضوع. فهم يدركون المنطق الكامن خلف الإطار السائد: تحتفظ “إسرائيل” بالتفوق العسكري بينما تتخلى عن أعباء الحكم، وتسعى لتفكيك “حماس” مع الترويج لنفسها كفاعل “عقلاني” فيما يسمى “عملية السلام“.
عدم التكافؤ واضح: الإطار ليس من أجل السلام – بل من أجل الاحتواء.
ومن خلال تقديم مقترحات مضادة، أعادت “حماس” والفصائل المتحالفة معها تشكيل التفاوض. مطالبهم ترفض التهدئة التكتيكية، وتؤكد على شروط بنيوية لأي تقدم. وأبرز هذه الشروط: الانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية من قطاع غزة. وعلى الرغم من تخفيف مطلب إنهاء الحرب علنًا، فإن الإصرار على ضمانات مكتوبة – خصوصًا لانسحاب القوات واستمرار مفاوضات وقف إطلاق النار – يشير إلى تشكّل أداة حماية سياسية.
وتدعو ملاحظاتهم كذلك إلى إشراف دولي – ويفضل أن يكون تحت إدارة الأمم المتحدة – وإلى إنهاء السيطرة الأميركية-الإسرائيلية على المساعدات والمراقبة. تدرك “حماس” وحلفاؤها أخطار ترك أدوات الوساطة في أيدي من يسعون لاحتوائهم. الإطار المضاد يطالب بوساطة لا كاستعراض دبلوماسي، بل كحماية بنيوية.
تُعيد هذه المواقف توجيه الإطار الكامل للتفاوض. لم تعد الفصائل ترد على الشروط الإسرائيلية – بل تبني نظامًا لا تُرحّل فيه العدالة إلى المناشدات الإنسانية، بل تُدمج ضمن البنية الاستراتيجية.
الإطار الأميركي مقابل الإطار الفلسطيني المضاد: كيف تحاول منظومة القمع التفوّق على المقاومة
الفصائل الفلسطينية، بعكس ما يُروّج، لا تتحرك بردّ فعل فقط، بل تمتلك أوراقًا قوية:
القدرة العملياتية: لم يعد الأسرى الإسرائيليون مجرد أوراق تفاوض – بل هم الدافع الأكبر الذي يدفع “إسرائيل” نحو التفاوض. الفصائل تتحكم بالإيقاع والتوقيت.
الوحدة السياسية: الجبهة الموحدة بين الفصائل تعزز شرعيتها، وتُضعف سرديات الانقسام، وتتيح لها التحرك بانسجام أخلاقي.
الهيمنة السردية: من خلال صياغة التفاوض بوصفه معركة من أجل السيادة والحماية والعدالة – لا مجرد تبادل – تسيطر الفصائل على الساحة الأخلاقية.
هذه القوة التفاوضية لا تعيق الطموح الإسرائيلي فحسب – بل تعيد تعريف معنى التفاوض ذاته.
كما قال أحد المحللين مؤخرًا: “حماس لا تلعب بأوراق مستعارة – بل تصمم حزمة أوراقها الخاصة.” وكما صرّح الأسير الفتحاوي مروان البرغوثي: “المقاومة حق مقدس للشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. ولا ينبغي لأحد أن ينسى أن الشعب الفلسطيني فاوض عشر سنوات، ووافق على اتفاقات صعبة ومهينة، وفي النهاية لم يحصل إلا على سلطة على الشعب، لا على الأرض، ولا على السيادة.” هنا لا يعبّر فقط عن إخفاقات الماضي، بل يؤكد على أن الكرامة والسيادة يجب أن تكونا أساس أي تفاوض، ويعيد تعريف شكل الشرعية.
إذا تصرف نتنياهو وفق نمطه المعتاد، فمن المحتمل أن تظهر عدة أنماط:
أساليب المماطلة: علنًا، ستتباطأ المفاوضات بذريعة المراجعات الأمنية والقيود اللوجستية – لكسب الوقت وكسر وحدة الفلسطينيين.
التحدي المتخفي بالتنازل: قد يبدو نتنياهو متصلبًا أمام الجمهور الداخلي، بينما يشارك بهدوء في الوساطات لحفظ غطاءه الدبلوماسي.
نقل اللوم: سيعتمد على الوساطة الأميركية لتخفيف المسؤولية، مصورًا التصلب الإسرائيلي كنتيجة لـ “قيود خارجية”.
لكنّ المعادلة قد تغيّرت. فالتعاطف الشعبي، والإرهاق الدبلوماسي، ورفض الفلسطينيين الانصياع قد تخلط أوراقه المعتادة.
إذا بالغ نتنياهو في المراوغة وسحب المفاوضات دون تقدم، فقد يدفع الفصائل من المرونة التكتيكية إلى الإغلاق الاستراتيجي – أي الانسحاب من المفاوضات كخيار إستراتيجي ردًا على إطار يقوّض العدالة منذ البداية.
الإطار المضاد ليس مصممًا لكسب المفاوضات – بل لتجاوزها. منطقه تحرري لا إجرائي. فوقف إطلاق النار يجب ألا يوقف العنف فحسب – بل يجب أن يقوّض شرعية الأنظمة التي تعيد إنتاجه.
وهذا يعني أن معيار النجاح يجب أن يكون استعادة الكرامة الجماعية – لا مؤشرات الإرضاء، والإصرار على إشراف دولي منفصل عن منطق الاحتلال، والاعتراف بالفلسطينيين كفاعلين استراتيجيين في صياغة النتائج السياسية.
وبقدر ما تكون صفقات تبادل الأسرى ووقف إطلاق النار حقيقية، يجب أن تعكس الهندسة التي بناها الأسرى أنفسهم – الثمن المدفوع، الوحدة التي صُنعت، والرفض الذي صُمِّم وصُمِّد.
في هذا الإطار، لا تكون المقاومة ردّ فعل. بل بنية وهندسة.
الكاتبة ريما نجّار، فلسطينية، هُجّرت عائلة والدها قسرًا من قرية لفتا الواقعة غرب القدس، فيما عائلة والدتها تنحدر من بلدة اجزم المهجرة جنوب حيفا. ناشطة وباحثة وأستاذة متقاعدة في الأدب الإنجليزي، جامعة القدس – الضفة الغربية المحتلة.
اكتشاف المزيد من شبكة صامدون للدّفاع عن الأسرى
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.