في ذكرى استشهاده الحادية والثلاثين ننشر النص التالي عن المناضل عمر القاسم. ويرصد مشاهد حياته ومحطّات نضاله، وتجربته في الأسر التي بدأها في أواخر عقده الثاني وانتهت باستشهاده بفعل الإهمال الطبي، بعد فصول من مواجهته للتعذيب والمساومات.
“لم يلتزم القاسم خطًا واحدًا في الأسر فكان موسوعة تجمع بين الفكر والسياسة والأدب والاجتماع، وكان يفطن إلى نقاط الضعف في نفوس من أمامه فيُقيم اعوجاجها سلوكيًا وفكريًا، وكيف لا يستطيع إلى ذلك سبيلًا وهو الذي عمل لسنوات مدرسًا في مدراس القدس وخالط الخبرات العربية بانتسابه لجامعة دمشق آنذاك ليحصل على ليسانس اللغة الإنجليزية وآدابها؟، كان يعلم تمامًا أن تطوير الفكر لدى الأسرى المُكبلين بقيود الأسر وجدران الزنازين مهمة صعبة خاصة في ظل تباين الرؤى التنظيمية، لكنه لم يتراجع”.
نُشر هذا المقال في إضاءات
محاسن أُصرف
لكل كائن حي دورة حياة، وبعد أن تكتمل هذه الدورة فإن الحياة تلفظه جانبًا، ويبقى كذلك إلى أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.
هكذا عبّر الشهيد «عمر القاسم» عن مشهد الحياة والموت، ليس في زنازين الاحتلال وحسب وإنما في أي بُقعة على وجه الأرض، فهي سُنّة الله في كونه، غير أن البعض إذا ما لفظ أنفاسه الأخيرة لا تلفظه الحياة، يُخلّد فيها بما ترك من أثر وما أسس من قواعد لحياة أجيالٍ بعده يستمروا بنهجه ويسلكوا ذات طريقه.
«القاسم» كان واحدًا من أولئك الخالدين بسيرتهم، وبما أسس من قواعد راسخة للحركة الأسيرة في سجون الاحتلال، أنبتها ورعاها على مدار 21 عامًا منذ اعتقاله في 28 أكتوبر/تشرين الأول 1968 إلى استشهاده نتيجة سياسة الإهمال الطبي في سجون الاحتلال في 4 يونيو/حزيران 1989.
ابن القدس متراس القضية
أن تولد في مدينة القدس يعني أن تحمل همّها وتطلب وُدها ولو كلفك الأمر أن تقضي العمر أسيرًا، أو تلفظه شهيدًا تُدافع عن ترابها بكلمة حق أو بفوهة بندقية، وعمر القاسم ابن حارة السعدية الملاصقة للمسجد الأقصى بالقدس العتيقة نال المصيرين أسيرًا وشهيدًا.
فبعد ميلاده في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 1941 لأسرة ترجع أصولها إلى بلدة «حبلة» قضاء قلقيلية بسبع سنوات، اُحتُلت الأراضي الفلسطينية في زمن النكبة من قبل الجماعات الصهيونية، وشكّلت تلك النشأة علامة فارقة في شخصيته، فشبّ على القيم والأخلاق والمبادئ النضالية التي لازمته قرابة 48 عامًا من عمره حتى نال الشهادة، فما إن تخرج من الثانوية العامة في مدرسة الرشيدية الثانوية بالقدس عام 1958 حتى التحق بحركة القوميين العرب في عمر الـ 17، وسريعًا راح يؤم معسكرات الثورة الفلسطينية التي بدأت بالتعبئة الوطنية للشباب الفلسطيني في الخارج.
في عمر الـ 27 أراد العودة إلى الوطن ليُمارس دوره في الدفاع عنه وذلك بقيادة مجموعة عسكرية داخل الوطن تعمل على إفشال أي مُخطط للاحتلال بالاستيلاء على الأرض وإنهاء الوجود الفلسطيني فيها، وكاد في 28 أكتوبر/تشرين الأول 1968 أن يصل إلى مدينة رام الله ليبدأ مشوار الجهاد والتحرير لكنّه ما استطاع، فبعد اجتيازه ورفاقه نهر الأردن اصطدم مع دورية إسرائيلية في مواجهة أولى داخل الأراضي المحتلة، لم يُدبر فيها واتخذ القرار بالاشتباك، واستمر ورفاقه يردون بما لديهم من ذخيرة على الاحتلال حتى نفدت تمامًا وتمكن الجنود من اعتقالهم ليواجهوا الحكم بالمؤبد.
حياة الزنزانة المُفعمة بالوطنية
بعد الحكم عليه بالمؤبد لم يستسلم القاسم وبدأ خلال السبعينيات من القرن الماضي يؤسس للحركة الوطنية الأسيرة داخل السجون، كان يُصر على إدارة حلقات النقاش مع الأسرى حول كافة التطورات التي تحل على القضية الفلسطينية، وكان داخل الأسر لسانًا ناطقًا ومنفذًا لمبادئ الجبهة الديموقراطية التي ينتمي لها، فيُفند أدبيات التنظيم الفكرية والسياسية والمادية والتاريخية ويطرح المحطات السياسية التي مرت بها القضية الفلسطينية.
اهتم كثيرًا بالقضايا الوطنية، ودومًا نبض قلبه بها؛ كونها ستمنحه شرف العيش في فلسطين التي يُريد، ولذلك قاد في أسره النقاش السياسي حول القضايا المصيرية، وعمد إلى توحيد الرؤى والمطالب في السياق الوطني الكبير بعيدًا عن الفئوية الحزبية، وهو ما جعله محط إجماع من كافة القوى الوطنية الأسيرة خاصة أثناء انعقاد الدورة الـ 19 للمجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر، والذي بموجبه تم إعلان قيام دولة فلسطين على الأرض الفلسطينية، بعد اندلاع الانتفاضة الأولى عام 1987، والتي شكّلت حالة إجماع فلسطيني على رفض الاحتلال والاستمرار بالعمل المُقاوم بالدم والحجارة والبندقية حتى دحر الاحتلال وتحقيق التحرير.
إنتاج فكري نابض بالحياة
لم يلتزم القاسم خطًا واحدًا في الأسر فكان موسوعة تجمع بين الفكر والسياسة والأدب والاجتماع، وكان يفطن إلى نقاط الضعف في نفوس من أمامه فيُقيم اعوجاجها سلوكيًا وفكريًا، وكيف لا يستطيع إلى ذلك سبيلًا وهو الذي عمل لسنوات مدرسًا في مدراس القدس وخالط الخبرات العربية بانتسابه لجامعة دمشق آنذاك ليحصل على ليسانس اللغة الإنجليزية وآدابها؟، كان يعلم تمامًا أن تطوير الفكر لدى الأسرى المُكبلين بقيود الأسر وجدران الزنازين مهمة صعبة خاصة في ظل تباين الرؤى التنظيمية، لكنه لم يتراجع.
حاول ترويض خبرته السياسية فيما يُنمي الفكر الوطني لدى الأسرى وبدأ بممارسة الكتابة وإصدار الصحف داخل المعتقلات، حتى أضحى بفضله لكل منظمة اعتقالية صحيفة خاصة، ومن ثمَّ حاول أن يجمع شملها في مجلة موحدة، فنجح حينًا وأخفق حينًا آخر تبعًا لأحوال المنظمة الاعتقالية ورؤيتها، ولعل أبرز ما كتب القاسم سلسلة مقالات تُشخّص أوضاع الأسرى داخل السجون ومراحل تطور الحركة الأسيرة، وكذلك تجارب إضرابات الأسرى، وقد وقعت تلك السلسلة في 34 مقالًا، بالإضافة إلى 126 كراسًا تناولت المراحل السياسية التي مرت بها الثورة الفلسطينية.
أبشع أساليب التعذيب
على مدار سنوات اعتقاله الـ 21 لم تمر 24 ساعة جملة واحدة دون أن يُؤذى القاسم على يد سجاني الاحتلال الإسرائيلي، فكانت السنوات الأولى لاعتقاله الأصعب على جسده، تعرض خلالها لعمليات طويلة من الشبح مكتوف الأيدي والأقدام إلى الخلف، ناهيك عن الضرب والشتم بالألفاظ النابية.
وكانت الفرصة مواتية للاحتلال خلال العام 1974 وتحديدًا بعد تنفيذ أحد أفراد الجبهة الديموقراطية عملية «معالوت ترشيحا»، وقتها جيء بالقاسم من أسره إضافًة إلى رفيقه «أنس دولة» وحاولوا إجبارهما على الحديث إلى الفدائيين من أجل إطلاق سراح الرهائن التي احتجزوها، إلا أن الرفض كان قرارهما، فقد علما أن مساومة الفدائيين لن تُجدي أبدًا ما لم يُذعن الاحتلال لمطالبهم، أما نصيبهم من التعذيب فحدث ولا حرج بدءًا من الضرب المبرح وصولًا إلى الاحتجاز في زنازين انفرادية لا يرون فيها الشمس إطلاقًا.
ولم يقتصر التعذيب على إنهاك الأجساد فقط بل كانت الوسيلة الأقسى التي يعمد إليها الاحتلال هي التعذيب النفسي، ومحاول إشعار الأسير المستهدف بأن لا قيمة له في عين تنظيمه بعد أن وقع أسيرًا في زنازينه، وفي العام 1985 وجد الاحتلال الحالة الاستثنائية التي يُمكنه بها إذلال القاسم، وذلك من خلال صفقة التبادل التي أبرمها مع القيادة العامة للجبهة الشعبية، إذ تم استثناؤه من الصفقة تمامًا ولم يذكر فيها اسمه، أراد الاحتلال أن يُمارس صلفه وتجبره في محاولة منه لسحب أي إنجاز أو مكسب سياسي حققته الحركة الأسيرة على مد الفترة السابقة.
ولكن كان جواب القاسم أن أعلن فرحته العارمة وعلى الملأ، فخاطب الأسرى قائلًا:
إن مجرد الإفراج عن الأسرى وتحريرهم من الاعتقال أيًّا كان انتماؤهم أو فصيلهم، عرس وطني كبير لا يُمكن معه إلا الفرح حتى لا يفقد من تحرروا فرحتهم.
لقاء القضبان والوداع الأخير
لا أحد ممن ذاق الأسر مُعتقلًا على يد الاحتلال الإسرائيلي منذ الستينيات حتى النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي؛ إلا وقد سمع أو جمعته علاقة «أسر» في زنازين الموت الرمادية بالقاسم، ومنهم من تطورت علاقته به فأضحى رغم تباعد الزنازين في السجون صديقًا له، كما هو الحال لدى «فايز أبو شمالة» الكاتب السياسي المعروف في الوسط الإعلامي الفلسطيني وكذلك السياسي.
كان لقاؤهما الأول من خلف قضبان سجن الرملة عبر صديقين مشتركين هما «محمود الكسبة» من مدينة القدس و«يحيى أبو سمرة»، وقتها تصافحا رغم حدود القضبان والشبك، وما لبث أن التقى به وجهًا لوجه في سجن عسقلان لتربطهما علاقة ودٍ وصداقة دامت في حكم الأرقام عامًا واحدًا، انتقل بعدها أبو شمالة إلى سجن نفحة، غير أن صداها ما زال حاضرًا في القلب والذاكرة، خاصة ذلك المشهد الذي جمع القاسم بـ «إسحق نافون» رئيس دولة الاحتلال عام 1987، وقتها حاول الأخير أن يأخذ عهدًا من القاسم بألا يقوم بعمل سياسي أو نشاط ضد الاحتلال مقابل الحرية والإقامة في القدس، لكن الرد كان مُجافيًا لرغبة «نافون» رفض بملء فيه قائلًا:
سيد نافون لك منصبك وعرشك ولنا سجوننا، ولا تظن أنني لا أحب الحياة والحرية ولا أكره السجون، ولكنني يا سيد نافون لن أساوم.
كان أمل القاسم أن يكون له ولد ليحمل اسمه ويستمر نسله، لكن لم يُقدر الله له ذلك، بعضهم كان يُغبطه أن ليس له ولد يضرب عصب وجدانه وينشغل بالتفكير بما سيحل به وهو بعيدًا في السجن، ومن أولئك أبو شمالة، فيذكر أنه ذات نهار من أيام مكوثهما في سجن عسقلان أخبره بأنه أحسن منه حالًا وأقل وجعًا، فلا ولد يُشغل باله ولا شيء يقُض مضجع قلبه، غير أن الإجابة كانت أقسى على لسان القاسم:
لم يبقَ بعدها أبو شمالة كثيرًا في عسقلان إذ انتقل إلى سجن نفحة الصحراوي، فيما بقي القاسم يُقاسي إجراءات الاحتلال في سجن عسقلان بالإهمال الطبي والتعذيب والتنكيل اليومي، وفي ذكرى اعتقاله العشرين كتب له قصيدة وبعث بها إليه، فكان القاسم فرحًا بها ينشد أبياتها بعلو الصوت، فيقول:
عشرون عامًا يا عمر! عشرون عامًا قضُّها وقضيضُها لا صيفُها ألقى عصا ترحاله وشتاؤها ما زال في إبكاره والأرضُ عطشى للمطر عشرون عامًا يا عمر!
مقبرة الأسباط تحتضن جسد القاسم
صحيح قد يشغل قلبك فراق أطفالك، ولكنك لو مت سيظل اسمك، وستجد من يحمله، أنا لو مت مَن يحمل اسمي؟
بدت تلك الكلمات التي خطها له أبو شمالة بلسمًا يُرطب خشونة جدران السجن الرمادية، فتهون عليه طول انتظار الحرية، لكنه ما استمر كثيرًا حتى أسلم الروح لبارئها.
فمنذ اليوم الأول لاعتقاله عام 1968 وعلى مدار 21 عامًا، مارس الاحتلال سياسة الإهمال الطبي بحق القاسم، وكان يُماطل في تشخيص الأمراض التي عانى منها بسبب التعذيب والتنكيل حتى تحولت إلى مرضٍ عضال بدأ يستشري في كل جسده خلال السنوات الأخيرة قبل استشهاده في 4 يونيو/حزيران 1989.
ورغم المناشدات الحثيثة التي وُجهت للاحتلال الإسرائيلي بضرورة الإفراج عن القاسم ليتمكن من الحصول على العلاج اللازم خارج مستشفى السجن؛ إلا أنه أصر على أن يُفني روحه كما جسده في غياهب الأسر بعيدًا عن أهله وأشقائه.
شهرين كاملين بقي القاسم يُصارع الموت والحياة في جسده، حتى قضى الله أمرًا كان مفعولًا بأن يصطفيه بشهادة أخلدت اسمه ومنهج فكره في أذهان الأجبال المتوالية، بينما وُوري جسده في مقبرة الأسباط بمدينته القدس التي احتضنته طفلًا وشابًا ورجلًا واعيًا فطنًا لحقوقه في الأرض والوطن.
كان المصاب جللاً على رفاق الأسر والزنزانة، صُدم الجميع بنبأ استشهاده وهو الذي يملك لياقة الجسم ونقاء الروح والفكر والعقيدة، لكنها «سياسة الموت البطيء» التي يتبعها الاحتلال مع كافة الأسرى، وقبل كل ذلك إرادة الله بأن يصطفيه بالشهادة.
محاسن أُصرف
صحافية فلسطينية، حاصلة على بكالوريوس صحافة وإعلام 2001،عملت في عدة وسائل إعلام ع…