نشر هذا المقال في جريدة الاخبار اللبنانية
ثائر أبو عياش
عند منتصف الليل اتصل أحد الأصدقاء وأبلغني أن الجيش الإسرائيلي قد اقتحم بيته وقاموا بالتفتيش ويبحثون عني داخل غرفته الخاصة. كانت الأحداث متتالية قبل أن تصل المعلومات إلى رأسي، كما الرعد يسبق البرق. نهض أخي الكبير الذي كان يجري مكالمة أيضاً وقال لي: «الجيش في بيت صاحبك بدهم إياك». أمي واقفة تشاهد وتسمع ما يجري، وربما قالت في نفسها: «اعتقال مش مهم. المهم أن لا يرحلوه إلى الأبد». ربما كانت تتمنى ذلك، ولهذا ابتسمت بدلاً من أن تبكي وتصرخ!إنها بداية منتصف الليل من الخميس الموافق 3-2-2009. ساعات الليل التي تحتضن العتمة والصمت وذكريات لم تعد من الماضي، بل ساعات ثقيلة تمر بلا دقائق، بلا شيء سوى رائحة الاعتقال وصوت الخوف في حركات الجنود الذين يحتلون عقولنا وبيوتنا ونفوسنا ووجودنا. لم يكن في تلك الليلة قد مرّ على استشهاد شقيقي الأصغر سوى أربعين يوماً، ولم تكن دموع أمي قد جفت. إذاً، هي ليلة من ليالي الاحتلال المليئة بالصراخ والجنود المدجّجين بالسلاح الذين يمارسون الإرهاب النفسي تحت ستار الأمن.
اقتحم الجيش الحي الذي أسكن فيه بعد خروجهم من بيت صديقي. مباشرة توجهوا إلى بيت عمي وفتشوه. كنا نراقب من النوافذ كل ما يحدث. إنها لحظات لا تحسب بحساب الزمن والمسافات، بل بحساب المشهد وتأثيره. كنت في تلك اللحظات كمن يقف وهو يشاهد إعداد حبل المشنقة له قبل تنفيذ الحكم. الخوف، أو بكلمة أدق الرعب، ينهش ما تبقى من جسدي. قدماي لا تحملان وجودي، وعقلي تتراكم عليه الأحداث والأسئلة وخوف أمي وصبر والدي… ومنظر سيجارته المشتعلة، والبرد، حتى قرر عقلي أن ما يحدث حلم، وبعد قليل ينتهي كل هذا. أتذكر كيف كنت أقف في منتصف البيت أنتظر أن يفتح والدي الباب لهم. كان المشهد كرجل يقف متأهباً ينتظر رصاصات الإعدام في ساحة فارغة.
وصل عمي ومعه الجيش وقرعوا الباب. قال: «الجيش معي بدهم ثائر». فتح والدي الباب وانتشر الجيش في كل مكان. باشروا بتمزيق صور شقيقي الشهيد، فنشب صراعٌ بالأيدي بين الجنود وشقيقي الأكبر، ثم تدخل الضابط الذي اقتحم البيت وأنهى الحدث مصطنعاً المهابة والوقار. كان موجزاً في كلامه. قال لوالدي: «جئت اليوم احتراماً لمشاعركم، لقد كنت أريد أن آتي إليكم بعد خمسة أيام من استشهاد ابنكم. وبديش مشاكل. بتمنى تتعاونو معي». والدي شديد الصبر والحكمة. ردّ عليه: «هل الاحترام يأتي بقتل الأطفال واقتحام بيوت الناس في هذا البرد وترويع الصغار. أنت لم تحترم أحداً، أنت ودولتك منذ قتلتم أولَ فلسطيني. أنتم لستم إنسانيين حتى تكونوا محترمين. قل لي كيف يتسع الميزان للاحترام والاحتلال معاً!».
هم كالجراد في كل مكان ورائحتهم مليئة بالجريمة. يفتشون ويصرخون ويعبثون بالبيت. أتذكر جيداً بعد ساعتين من التفتيش المستمر كيف نقلونا إلى المطبخ. قرر والدي الحصول على فنجان قهوة. عندما أراد إشعال الغاز صاروا كالمجانين في المطبخ، ومنعوه من الحصول على ذلك الفنجان. صرخ والداي: «هل يعقل أن تفقد حقك في بيتك وتصبح مسجوناً فيه». جاء الضابط وقال: «ممنوع تعمل قهوة». وسأله والدي: «ماذا لو قمت أنا بمنعك في بيتك من فعل هذا، ماذا ستفعل؟». كان السؤال كمن ضرب الضابط بمطرقة على حنجرته، فتجمد مكانه.
تفتيشٌ في البيت وخارجه. في كل زاوية. يفتشون الخزائن ويخلعون بلاط البيت. يهدمون السور الخارجي. للحظة تعتقد أن هذه الجمادات هي عدو لهم أيضاً. ساعة تحتضن أخرى وهم يفتشون. ثم ينقلوننا من غرفة إلى غرفة، مع تحقيق ميداني. عند بزوغ الفجر، وبعد خمس ساعات من التفتيش والتحقيق الذي تجريه مجموعة من الضباط معي ومع شقيقي، وأحياناً مع والدي، اعتقل الجيش شقيقي الأكبر، وانسحب تاركاً خلفه دموعاً نحتت ذكريات في قلوبنا، وأوجاعاً تلتصق داخلنا كما يلتصق أي عضو في أجسادنا. انسحب الجند بعدما انتزعوا منا ما تبقى من حب لرائحة الوجود. صمتُّ طوال اليوم إلا من سؤال واحد: «لماذا اعتقلوا شقيقي ولم يعتقلوني».
بقي هذا السؤال يلازمني طوال اليوم التالي، خصوصاً عندما أتذكر كلمات الضابط الذي قال عند باب البيت قبل رحيلهم بدقائق قليلة: «جهزلي ثائر بكرا، راجع أخذه هو كمان». خلال غرقي في هذا السؤال، اتصل والدي و أبلغني بضرورة العودة إلى البيت بعد جولة داخل البلدة. لم أدرك هل هو الخوف أم أنَّ كلمات الضابط هي التي نطقت عند اتصاله! عدت وارتميت على السرير، بعد يوم لم يكن فيه سوى السؤال الذي تستطيع أن تقرأه في عيون الناس: «ليش ما أخذوك انت وأخذوا أخوك الكبير؟ لا إجابة. أصمت، أراوغ باحثاً عن أحد ينقذني بقشة من هذا الغرق، بالبحث عن موضوع آخر غير الاعتقال والجيش وكلِ هذا الكابوس المزعج. ربما مثلاً نحكي عن الأسلوب الأفضل للتعارف على فتاة! لم أكن أتصور أنَّ مثل هذه الأفكار يمكن أن ترى النور في هذه الظروف.
فجأة صرخوا: «افتخ افتخ جيش الدفاع الإسرائيلي». نهضت من السرير مفزوعاً. كنت أشتهي لو يسمحوا لي بخمس دقائق أخرى في سريري الدافئ وسط هذا البرد القارس. حاول والدي مراوغتهم حتى نجهز أنفسنا. عاودوا الانتشار في البيت وتلك الأم الثكلى التي تفترش الأرض لم تستطع حتى النهوض. لكن لا سبيل لمنع الألم هنا من الدخول. يدق ويدق… ويستقر داخلك. لقد كانت الدموع في تلك اللحظة قرآن الطفلة التي في حضن أمي.
فتشوني أمام البيت، وما هي إلا دقائق حتى صرت مغمَضَ العينين، وصار العمى هو الرفيق إلى المجهول. ربما كان العمى الأقل خطراً في تلك اللحظة، لأن الرؤية بين هؤلاء الجنود الذين لا يرون ستكون موحشة. كنت أشبه بممثل شهير يريد الخروج على منصة المسرح لتقديم اللحظات الأخيرة لرجل أعمى قاتل في سبيل حرية الحب. تلك الجريمة الصامتة التي كانت الشيء الوحيد الذي يرى داخله. كان المشهد الأول من أمام البيت، حتى السيارة العسكرية دقيقة واحدة تتكرر يومياً لكنها صارت الآن مختلفة. بدأت أتذكر: على اليمين يوجد وردة بلون الدم، على يساري شجرة رمان كنت أحب ثمرها، عند ذاك المفرق كنت أتعجب من الإضاءة لمستوطنة «غوش عتصيون» والمعتقل العسكري الذي أشاهده يومياً من بعيد، وسأكون اليوم نزيلاً جديداً فيه. كأن هذا المفرق هو نهر هيراقليطس، وها أنا لا أمرّ من هذا النهر مرتين.
في المشهد الثاني، لم أكن خائفاً ممّا يجري أو حتى إن كان ينتظرني الموت. كنت خائفاً من المجهول الذي يبتعد كلما اقتربنا من السيارة العسكرية، المجهول الذي يحمل الإجابة عن غياب الحرية التي افتقدها جسدي وتشبه الأرجوحة في مكان مظلم لا يحركها إلا الهواء، الحرية التي تعتصر كالإسفنجة الآن بين يدي الجنود الذين لا أعرف هل هم أيضاً خائفون، وهل صراخهم عليَّ ينبع من خوفهم أو ينفذون أوامر قائدهم… ربما كل ذلك الانتقام كان بسبب البرد الذي يشعرون به! كم يختلف هذا البرد عن البرد الواقع على جسدي.
لا أعرف إذا كانوا في تلك اللحظة قد شاهدوا شجرة اللوز التي تذكرتها عندما مررنا من أمامها، تلك الشجرة التي سرقت منها في طفولتي، فكرهتني جارتني العجوز بسبب ذلك، قبل أن تسامحني عندما أتتها الملائكة. لكن كانوا هم مغمضي العيون، وأنا الوحيد الذي كنتُ أستمتع برؤية كل تلك الأشياء لأن الورد لي وشجرة الرمان لي، وهذا الطريق لي. أما أنا… تحركت سيارتهم العسكرية. دقائق قليلة ووصلنا الجزء الأمامي من «غوش عتصيون». الجنود تأكدوا أنه لا رصاص في «بيت النار»، خوفاً من أن أنقض عليهم وأطلق الرصاص. هؤلاء قاموا بكل الحركات المقززة داخل السيارة. أحدهم كان يجلس على رأسي بكامل مؤخرته وأطلق الريح. حتى هذا اليوم أنا مؤمن بأن هذه المؤخرة هي الشيء الوحيد الذي حاول أن يفكر داخل ذاك الجسد، للجندي، الذي حنّطه الاحتلال.
لا أزال مغمضَ العينين. وصلنا كرسياً خشبياً في ساحة مفتوحة. أجلسوني هناك تحت المطر وهم احتموا بمظلة كبيرة. كنت أشبهُ شجرة الزيتون المغروسة في الأرض. ترتوي بالمطر المتساقط بغزارة. أشعر بنخزاته على جسدي وسقوطه من جسدي على الأرض ولا أستطيع رفع رأسي. البرد ينهش ما تبقى مني. توقف المطر وجاءت جندية ببدلتها وجلست بجانبي وأطلعتني على ورقة الحقوق والواجبات. أسخف ما يمكن أن تسمعه في هذه اللحظة هو الحقوق والواجبات. كأنك جثة تتلى عليها آيات من الكتب المقدسة! بعد ذلك أنزلوني إلى المعتقل. ونحن في الطريق تدحرجتُ بسبب العمى، فسحبني الجنود على الأرض مسافة طويلة من دون توقف عن الضحك والسخرية، حتى وجدت جسدي مغطىً بالوحلِ لحظةَ دخولي المعتقل.
صباحاً نهضت بعد نوم عميق. كنت أعلم أن شقيقي في الغرفة المجاورة. توقفت بين الباب والساحة أنظر يميناً ويساراً كطفل يبحث عن ملجأ يحتضنه بعدما افتقد أمه. انتظرت وفكرت: هل أعود إلى الغرفة أم أنتظر. لم تكد تكتمل الفكرة حتى اكتمل الكسوف البشري هناك، عندما التحم الجسد البشري المظلم في الجسد البشري المضيء تحت سماء الاحتلال. تعانقنا وتحدثنا حول كل ما جرى، واحتضنتنا الأيام بين الذكرياتِ والنومِ وتناولِ الطعام الذي لا يكفي لِقطة، والصعود إلى «البورش» (السرير) في غرفة رقم 12 لرؤية المفرق الذي يؤدي إلى بيتنا… وتحقيق يتناوب عليه الضباط وإرهاقات النقل إلى سجن «عوفر» حيث التحقيق، وافتراضات وتحليلات حول ما هو قادم، واقتراحات للصمود وتحمل المرحلة. مكثنا في هذا السجن أربعة أيام بدأت معها قصة جديدة تحمل الجهل بهذا الواقع. هذه القصة ستصبح موضوعاً آخر.
عادت الساعات مثقلةً في اليوم الأخير داخل «عتصيون». صخرةٌ كصخرةِ بلال جاثمةٌ على صدري. أحاول بالصلاة أن أسأل الله ماذا يحدث. كانت مشاعري مليئةً بالدمع، وبدأت أشعرُ بفقدان نفسي. كنتُ ثملاً بالحزن حتى جاءت «البوسطة». أطلقت صوتها كبوق عزرائيل، وأحدهم صرخ بصوت مخنوق بالماضي: «الله يستر!» دقائق قليلة بعد البوق ودخل أحد الجنود الساحة وهو يعي جيداً هدفه. تنقل عبر شبابيك الغرف وصوته يخترق صدري ويدق على قلبي بعنف. وصل الغرفة التي أنا داخلها ونادى: «وين ثائر أبو عياش؟» قلت: «نعم». قال: «جهز ملابسك والمقاش (صحن الطعام) وتعال».
الجميع في داخل الغرفة هدأت أنفاسهم العالية وبدت وجوههم حزينة. ودّعوني، وذاك الرجل الذي طلب الستر من الله قال لي: «شوف يا ابني، أنا أُعتقلت في حياتي من أيام التسعينيات، وبدك تعرف إذا البوسطة راحت يمين فإنت احتمال مروح، وإذا البوسطة راحت يسار فإنت رايح تحقيق، وأنا ما بحكيلك عشان أخوّفك بس عشان تكون جاهز». فجأة اختفى وجه هذا الرجل بين الأسئلة التي تراكمت في رأسه، وعيونه لم تعد تنظر إليّ بل إلى ماضٍ متعب.
لم أتحدث بشيء. لا شيء داخلي إلا الأسئلة المتراكمة: من أنا وأين وماذا وكيف… خرجت من الباب وجميع المعتقلين في «عتصيون» على الشبابيك ينظرون. لا أعرف هل عيونهم حزينة أم فرحة. لسانهم لا ينطق، لكنه يقول: «دير بالك على حالك، وتوكّل على الله وما تخاف». وقفت قبالة الباب مغمضَ العينين مرة أخرى مثل محكوم بالإعدام يسير إلى المقصلة، تاركاً خلفه حكاياتٍ بريئة. فُتح الباب وخرجت. أربعة جنود على البوابة تسلموني و«البوسطة» لم تنطفئ، وها هو المطر يرافقني في خروجي كما في دخولي: ربما أريدُ معاتبتكَ الآن أنتَ أيضاً. ألا تعرفُ أنكَ كنتَ قاسياً ببرودتك وتساقطك الطبيعي؟ ألا تعرف أنك كنت لعنة أخرى؟ لكنني ما زلتُ أحبكَ، أحبكَ رغم كل شيء. لقد غفرت لك ولم أغفر لمن سرق وقتي.
أدخلوني إلى تلك الغرفة الصغيرة التي تشبه علبة السردين وأغلقوها، ومضت بي «البوسطة». حان وقت الحساب، هنا، عندما يكون الخوف أشد من العقوبة. في تلك اللحظات، بدأ عقلي يلعب لعبة النرد الخاصة به: يمين يسار، يمين يسار… ويتمنى أن يربح الحجر. توقفت «البوسطة» فجأة لثوانٍ قليلة، وأصوات المطر ترتطم بالأرض، وصوت محركها يهدر، وقلبي يخفق بشدة في أذني، ومع صوت الخوف الذي يطرق قلبي كان حجر النرد قد سقط. نعم سقط على يسار الرقعة. لم تنتهِ الحكاية بعد، ولعبة نرد جديدة قد بدأت بعد هذا اليوم، تحمل معها سؤالاً لا يقبل أن يفاوضَ عقلي: ماذا الذي يوجد على اليسار؟
* أسير فلسطيني محرر