الأسير المفقود: عباس السيد – ثائر أبو عياش

الأسير المفقود: عباس السيد

ثائر أبو عياش

في مقارنة لتعريف الانسان بين الواقع السياسي في فلسطين والسينما الأمريكية، يأتي الفيلم الأمريكي “cast away” ليستعرض قصة تشاك ” بطل الفيلم” الذي نجى من بعد أن سقطت الطائرة التي كان على متنها في البحر، ووصل إلى جزيرة معزولة واستمر في العيش لوحده عليها عدة سنوات. تشاك الذي عاش وحيداً معزولاً عن أي شكل مِن أشكال التواصل البشري في هذه الجزيرة، اختبر مشاعر الأسى والحزن، والأمل في عودته إلى حياته، فحاول التكيف في هذا المكان مستخدماً أدوات الطبيعة المُتاحة، لإشعال النار والبحث عن الطعام، والتفاعل بشكل ثنائي مع ذاته كي يحافظ على توازنه في عالم الوحدة الواقع فيه.

تشاك هو رمزية الانسان المفقود في السينما الأمريكية، إلا أن معكوس قصة السينما، وهو الواقع السياسي في فلسطين فإن رمزية المفقود لذات واحدة بتعريفها الفردي، وتشكيلها اللغوي لتعريفها للجماعة ” المفقودين” فإنها تعريف واقع الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الصهيوني، اللذين تُشكل فصول حياتهم سيرة في معنى الأمل وصناعته، والتكيف القسري، وكيفية مرور أيام حياتهم داخل الزنزانة. وواقع الأسير عباس السيد هو أحد فصول هذه القصة، فهو المفقود بين جدران الزنازين قسراً، لا يقدر على الاتصال والتواصل مع أفراد عائلته ومجتمعه، وطريق نجاته ونزع صفة ” الفقدان” عنه هي بتحرره من قضبان الزنازين وعودته إلى بيته.

صورة الأسير عباس السيد

الذاكرة هي مكان حفظ الذكريات ولحظاتها، وذاكرتي التي حفظت تفاصيل الأحداث بسجن الرملة عام ٢٠١٠، تعود اليوم لتذكيري مرة أخرى بهذه الأحداث، ففي هذا المعتقل عند الساعة التاسعة مساءً تكون الزنازين معبئة مرة أخرى بالأسرى المفقودين، من كل الفصائل الفلسطينية العائدين من المحاكم والمستشفيات، وقد تم توزيعهم بعد عودتهم من هذه الأماكن داخل غرف السجون، إذ يبقون فيها لمدة ثلاثة أيام. في ذلك اليوم مِن شهر نيسان كُنت أجلس على البرش[1] في معتقل الرملة منتظراً البوسطة العائدة من سجن عسقلان أقرأُ كتاباً في أدب غسان كنفاني، توقف في هذه الأثناء إلى جانبي رجل بشارب يختلط فيه الشعر الأسود مع الأبيض، بوجهٍ فرح يغطيه شعره الأشيب، يتحرك بحرية مطلقة وثقة رغم وجوده في معتقلات لا إنسانية.

اقترب مني وقال لي: تشرب شاي؟ أجبته بالإيجاب، وسألته كيف تصنع الشاي هنا؟، رد قائلاً لي: لا تقلق. وفعلا هذا ما جرى، قام بقص قنينة ماء فارغة واستعمل الجزء الأسفل منها، ووضع بداخله الماء، ثم أحضر المزليج[2] لتسخين الماء وقام بوضع السكر والشاي بداخلها وعندما أصبح جاهزاً، شربناه سوياً. بعدما فرغنا من ذلك، قال لي: لو كنت بالخارج كيف تصنع الشاي؟  أجبته: أقوم بإحضار إبريق الشاي يتناسب مع حجم الكمية التي اود تحضيرها، أضعه على الغاز وأضع بداخله السكر وأقوم بتحريكه، وعندما يغلي أضع الشاي والمرمية أو النعنع حسب ما اختار. أو في خطوة تختلف عن التي شرحتها، أخرج مع أصدقائي إلى الخلاء ونقوم بصنع الشاي على الحطب. نظر إلى الرجل أثناء شرحي لطريقة إعدادي الشاي وابتسم، وقال لي بهدوء: هذه هي الحكاية يا رفيق.

مرت الأيام بعد هذه المحاورة، وبعد الإفراج عني بسنتين علمتُ أن الرجل الذي حاورته حول قصة صنع الشاي في معتقل الرملة هو الأسير المفقود عباس السيد، وهو أحد قيادات كتائب عز الدين القسام في الضفة الغربية خلال الانتفاضة الثانية. محكوم بــــِ ٣٦ مؤبد و١٤٠ عاماً بسبب مسؤوليته عن تنفيذ عملية تفجير فندق بارك وعملية هشارون، ما أدى إلى مقتل ٣٧ عدو إسرائيلي فيهما. اعتقل بتاريخ ٨.٥.٢٠٠٢ بعد مطاردته عام كامل من قبل قوات الجيش الصهيوني، وتعرض لعدة محاولات اغتيال نجى منها، ثم تم التحقيق معه بأساليب وحشية مدة ٥ أشهر.

بوستر الفيلم

إن قصة الأسير عباس السيد هي قصة مفقود، ما زال أسيراً في سجون الاحتلال الصهيوني منذ ١٨ عاماً، وسوف تبقى صفة الفقدان لصيقةً به طالما بقي هو داخل هذه المعتقلات في الحياة الواقعية، بينما تشاك رمزية الانسان المفقود في السينما الأمريكية قد انتزعت عنه صفة الفقدان بعد عودته إلى وطنه في نهاية الفيلم. إن الوقت، الانتظار، الصبر، هي أشياء تنتهي وتجد خلاصها في السينما بعد نهاية الوقت المحدد لعرضها، بينما في معتقلات العدو الصهيوني هي تفاصيل يعايشها الأسرى الفلسطينيين ويعانون من مرارة شعورها حيناً وأملهم بانتهاء الشعور بها بعد وجودهم بين عائلاتهم في وقتٍ ما، فالوقت لديهم لا توقيت لانتهائه، والمعياد المؤكد لايقاف هذه المعاناة كلها واستمرار وقتهم الطبيعي بنزع صفة الفقدان عنهم، هو حين تحررهم وملامستهم للحرية. أما عن تفاصيل حياة الأسرى وتكيفيهم القسري داخل السجون التي تعزلهم عن التواصل البشري، فهم يحولون رفاق زنازينهم إلى عائلة جديدة لهم تربطهم مع بعضهم البعض مرارة السجن والألم الذي يمرون به، والأمل بذات الوقت بالخلاص والتحرر. أما تشاك فقد وجد في ويلسون[3] رفقياً جديداً له ليذكره بكيف يحدث التواصل، إلا أنه مجرد رفيق مؤقت يختفي بعد أن ينتهي وقته على الجزيرة ويعود إلى وطنه، أما الأسرى فمتى بدأت العلاقة فيما بينهم فإنها مستمرة تستمد استمراريتها من مصيرهم المشترك، ومشاركتهم بعضهم البعض تفاصيل حياتهم داخل المعتقل أثناء صناعتهم المجسمات كالسفن والخرائط التي يرسلونها كهدايا لعائلاتهم التي تشاركهم انتظار اللحظة التي سوف يجتمعون بها معهم، كاخلاص صويص زوجة الأسير عباس السيد التي ما زالت تنتظر تحرره لليوم.

 

 

[1] البرش: سرير الأسير وهو مصنوع من الحديد، ويتكون من طابقين.

[2] المزليج: وصلة كهرباء تسمى الشوكة يأتي في اخرها قضيب من المعدن للتسخين.

[3] ويلسن. وهو كرة طائرة رماها بطل الفلم مرة وكفه ملطخة بالدماء بعد ان جرفها المحيط إلى الجزيرة التي هو عليها، فرسم وجهاً على الدماء وأخذ يحادثه، كان هذا التائه بحاجة إلى أن يكون مجتمع ليتعايش معه حتى لا يشعر بأنه وحيد فاخترع ويلسن.