الأسرى الفلسطينيين ما قبل أوسلو: مذكرات من البيت المميت — ثائر أبو عيّاش

الأسرى الفلسطينيين ما قبل أوسلو: مذكرات من البيت المميت

ثائر أبو عيّاش

يقول الكاتب الروسي داستاييفسكي في روايته مذكرات من البيت المميت: “كان سجننا يقع في طرف القلعة، قرب متراسها بالذات. إذا أتفق أن نظرت عبر فروج السياج إلى دنيا الله، لعلك ترى على الأقل شيئاً؟- لن ترى غير طرف السماء، ومتراس ترابي عالٍ، تكسوه أعشاب طفيلية طويلة، وعلى المتراس ذهاباً وإيابا، وليل ونهار، يتمشى الحراس، فتفكر عندئذ أن سنين كاملة سوف تمضي، وأنت على هذا النمط بالضبط ستظل تنظر من خلال فروج السياج نفسه وترى المتراس نفسه، والحراس أنفسهم، وطرف السماء نفسه، ليست تلك السماء التي فوق السجن، بل سماء أخرى، بعيدة، وحرة”.

يصف داستاييفسكي من خلال 450 صفحة الحياة النفسية والاجتماعية والاقتصادية للسجن الذي يعيش فيه البطل والذي اختلف حوله النقاد أن البطل هو نفسه الكاتب لأن داستاييفسكي عاش ما يقارب الأربعة سنوات داخل السجن، ويتحدث عن الأعمال الشاقة والسنوات الطويلة وأنواع المساجين الذين تنوعت جرائمهم المختلفة وربما التوافق الوحيد بين الأسرى الفلسطينيين خصوصا أسرى ما قبل اتقاف أوسلو وبين المساجين في رواية داستاييفسكي هو سنوات السجن الطويلة التي وصلت في الأسرى الفلسطينيين حد سته وثلاثون عاما تقريبا. إن الأسرى الفلسطينيين لم يرتكبوا جرائم ضد الإنسان بل هم متهمين بدفاعهم عن وجودهم الإنساني في الأرض المُستعمَرة، ولكن الاختلاف يكمن بأن سجن عن سجن بفرق وأن تهمة عن تهمة تختلف إلا في فلسطين التهمة هي نفسها فلسطين أي الوطن.

في الثالث عشر من أيلول/ سبتمبر تم التوقيع بين منظمة التحرير الفلسطينية والاحتلال الصهيوني اتفاقية يرعاها الجانب الأمريكي وهي ما تعرف باتفاق أوسلوا ” اتفاق التنازل”، وتم توقيع هذه الاتفاقية في ظل وجود أكثر من تسعة آلاف أسير فلسطيني داخل السجون الإسرائيلية بعد الانتفاضة الأولى، إلا أن الفلسطينيين تفاجأوا بعدم وجود أي بند فيها يقضي أو يطالب بالإفراج عنهم، ما أشعل موجة من الاحتجاج على الاتفاقية، ويقول وزير الأسرى الفلسطيني السابق وصفي قبها: إن قضيتهم لم تكن أصلا ضمن بنودها ولم يكن هناك أي بند يتعلق بهم، مشيراً إلى أن المفاوضين الممثلين عن السلطة تذكروا لاحقا قضيتهم حين انتفض الأسرى بعد مرور توقيع الاتفاقية وعدم وجود أي بند يمثل قضيتهم أو يطالب بحقهم في الحرية، ويضيف قبها : “كان شمعون بيريس وقتها يحمل في جيبه قوائم الأسرى استعدادا للتفاوض حول جدولة إطلاق سراحهم، ولكنه تفاجأ أن المفاوض الفلسطيني لم يتطرق أصلاً لقضيتهم ولم يطالب بالإفراج عنهم، ويرى قبها بأن المفاوض الفلسطيني تطرق لقضية الأسرى الفلسطينيين متأخرا جداً، حيث حين علم الاحتلال أن ورقة الأسرى ثمينة جداً استطاع من خلالها ابتزاز المفاوضين”.

إن هؤلاء الأسرى ينتزعون الفرحة من شوك الكآبة يومياً، ويرجمون الأوجاع بالصبر والتحمل كأنها شيطان، وأنهم بين قضبان السجن أكثر حرية من الشمس ذاتها، ويصارعون الحياة بالحياة ويهبونها لمن هم في القبور، إن كل أسير داخل السجن هو رواية لوحده مليئة بالتفاصيل الخاصة الشرسة والثقيلة، ستشعر بالدهشة عندما سماع هذه القصص التي فقدت الإحساس بالزمن وحاربت المكان بالمكان، وتشعر بالدهشة مرة أخرى أمام هذه العقول الفولاذية، ولكن إذا فحصت وسادة احدهم صباحاً ستجد الدموع قد بللتها لأنه بعد كل هذه السنوات سيبقى يخفي علينا في زاوية ما قصة عشق سرمدية يحتفظ به كذكرى لتحايل على الوقت الذي يهاجهم غريزة البقاء لديه، أو ربما قد اشتاقوا لتجليد دفتر الحساب وهم يغنون للفنان اللبناني خالد الهبر:

كيف مرت الأيام ..بالسجن الرهيب

جلّاد ما بينام … ولا بيوقف التعذيب

و أصوات المعتقلين … عبّا الزنازين

ما اطوَل الإيّام … ما أصعَب الإيام

ب معتقل الخيام

ولما بشهر أيار ب نهار عبكرا ..انهدت الأسوار وتحرروا الأسرى ..رجعت عالمعتقل أتذكر اللي صار بسنين المعتقل

هوني فلان انضرب

هوني فلان انجلد

هوني فلان انقتل

وكل اللي كانوا وفلوا.. صوتن باقي محلو

ساكن بكل زنزانة ..لآخر الإيام .. ب معتقل الخيام…

يقول جان جاك روسو في كتابة العقد الاجتماعي ” وإذا ما فاجأني قاطع طريق في زاوية من غابة وجب عليَّ ً أن أعطي كيسي قسراً، ولكن هل أكون ملزما وجدانًا بأن أعطيه إياه إذا كنت قادراً على منعه منه؟ وذلك لأن السلاح الذي يحمله هو سلطة أيضا”، ويعتبر روسو ” أن الحق بجانب الاقوى دائماً” وبناء على ما ذكر روسو يتعامل الاحتلال كما أنه يمتلك الحق لأنه صاحب القوة كي يعاقب جسدياً الأسير الفلسطيني ويسلب منه مواطنته وخصوصا حرمانه من الحرية التي قاتل وناضل في سلبيها ويدفع سنوات وربما حقب زمنية خلالها تطورت الحياة في كافة مفاصلها، إن هذا الحق الذي يدعيه الاحتلال يحمل بذرة الجريمة بداخله.

إن هؤلاء الاسرى هم جرحنا المفتوح، ويقارعون بالأمل قبضان السجن الأمل الذي قال عنه جابوتنسكي في مقالته “الجدار الحديدي”: لا يجوز اعتبارهم رعاعاً بل شعب حي، حتى لو كان شعبا متخلفاً. يوافق الشعب الحي على تقديم تنازلات في قضايا مثل هذه القضايا العظيمة والمصيرية عندما ينعدم الأمل”.

وهذا يدعونا إلى القول أن انتزاع حرية هؤلاء الاسرى لا يتم بالاتفاقيات الهزلية الضعيفة ذات الطابع الاستسلامي مع الاحتلال بل المطلوب هو صفقة بين المقاومة والاحتلال والتي ربما تكون قريبة للأفراج عنهم لأننا سنكون الطرف ليس فقط من يمتلك القوة بل أيضاً أصحاب الحق.

إن أصعب فقر يمر به هؤلاء الاسرى ليس فقط فقر المال أو العائلة أو فقر الحرية بل هو الفقر المدقع للوطن