طائر منيرفا لا يأتي إلا عند الغسق : عن تجديد نضال شعبنا وبقاء جذور اشتعاله في وجه الاستعمار الصهيوني — النور خالد

 

إن أسرانا في سجون الاحتلال يمثلون وجه النضال الفلسطيني الحقيقي، وها هم يثبتون يومياً أن الحرية هي المحرك الدائم لنا كبشر، وأن الإرادة والتوق نحو التحرر دائماً ما يجد الضوء، فمن نفق الحرية إلى مقالات وكلمات خطوها ووجدت طريقها لتشق النور، تأتي هذه المقالة ضمن سلسلة من المقالات التي سنواظب على نشرها من إنجازات الحركة الأسيرة داخل السجون باسم مستعار فيه رسالة لنا بأن النور دوماً خالد.

طائر منيرفا لا يأتي إلا عند الغسق

عن تجديد نضال شعبنا وبقاء جذور اشتعاله في وجه الاستعمار الصهيوني

النور خالد

تعيش الحركة الوطنية الفلسطينية في أزمة عميقة منذ فترة طويلة، أزمة لا تخفى على أحد، بل وتلقي بظلالها على مجتمعنا الفلسطيني! فابتداء من الانقسام الداخلي ورغم ضعف القدرة على تجديد الكيانات التنظيمية، بكافة معاني التجديد ووصولاً لغياب الديمقراطية الضرورية لاختفاء شرعية ذات نوع ما على هذه الكيانات

وعلى صعيد آخر تغول “إسرائيلي” على الشعب الفلسطيني وحقوقه، من مصادرة أراضي واعتقالات، حوالي 5000 أسير في السجون الإسرائيلية وهدم بيوت بحجة عدم وجود تراخيص للبناء، وقتل مستمر لأبناء شعبنا، وتجدد متواصل في بناء المستوطنات في الضفة والقدس. علاوة على كل ذلك، تدهور بالموقف العربي، وهرولة بعض الدول العربية للتطبيع مع إسرائيل.

أمام مشهد كهذا يجد الفلسطيني نفسه يقف في طريق يبدو للوهلة الأولى مسدودًا من دون أفق أو منفذ من النور يكون مسرباً للانطلاق نحو المستقبل!

إلا أن الصورة بحقيقتها الكاملة ليست كذلك، فالحقيقة لا تكتمل دون فحص المكانات الكامنة الموضوعية داخل المجتمع، فالسياسة تذهب إلى ما تحت السطح، وما يتحرك من فوقه، إذ لا يمكننا أن نحكم بناء على الأمواج التي تموج على السطح دون أن ندرك ما يموج داخل عمق البحر، فالتاريخ يعلمنا إن ما يحتمل العمق هو ما يجب أن نراهن عليه.

فما هي إمكانات المستقبل؟ وما هي محركات الفعل الموجودة موضوعيًا التي تجعلنا نؤمن بأن هناك نور في نهاية النفق؟!

يوجد باعتقادي مفاعيل ثلاثة رئيسية قادرة على تجديد نضال شعبنا وبقاء جذور اشتعاله بوجه المستعمر الصهيوني وكفيلة بتجديد الحركة الوطنية حتى ولو بدت باهتة الآن:

  • الوجود الموضوعي لشعبنا، إن الوجود الموضوعي للاستعمار الصهيوني أكبر كارثة/خطأ تاريخي اقترفته الحركة الصهيونية وستدفع ثمنه باهظًا بعد التطهير العرقي عام 1948، هي إبقاء مئات الآلاف من شعبنا على أرض فلسطين، والذي أصبح الآن مجتمعًا يفوق الملايين الستة في فلسطين التاريخية. إذ ساهم هذا الأمر بشكل أو آخر ببقاء قضية شعبنا حية بوجوده على أرضه، وهو أكبر عقبة أمام الصهيونية لإتمام مشروعها وإعلان انتصارها النهائي، إذ يسيطر الاحتلال على بقعة جغرافية نصف سكانها هم سكان أصليون معادون وجوديًا لمشروعه.

من جهة أخرى، يمعن الاستعمار الصهيوني بممارسته ضد شعبنا، ولا يتوانى عن قتل الفلسطيني دون أي اعتبار، إذ يعاملنا على أننا بشر دوناً منه، يحق له استعبادنا وقتلنا والتمييز حتى بالحقوق المدنية لمن يقطنون في الداخل المحتل منذ عام 1948.

إنّ الوجود الموضوعي لشعبنا والحالة الموضوعية من القمع الصلف بحقه من قبل السلطات الاستعمارية في كافة الصعد وعدم الاعتراف بحقوقه التاريخية يجعل من حالة المواجهة مستمرة وممكنة طوال الوقت حتى وإن اتخذت حالة المقاومة في مرحلة ما شكلًا من التراجع والخفوت! فالاستعمار بممارساته بمهنيته يحفر قبره، يبقى الشعب الفلسطيني يشعر بانتهاك حقوقه التاريخية وكرامته الإنسانية وإشعاره باللاقيمة، وهذا أهم أسباب الموضوعية لبقاء شعلة المواجهة.

  • الوطنية الكامنة والإرث الكفاحي الوطني لشعبنا

إنّ أهم إنجاز قامت به الحركة الوطنية المعاصرة هو الحفاظ على الهوية الفلسطينية من الضياع، فمن شعب مشرد لاجئ مشتت يعيش بالخيام إلى شعب له هوية البحث عن وطنه المسلوب ويسعى لاسترجاعه، أي كان دور الحركة الوطنية نقل الشعب الفلسطيني من حالة المفعول بنا إلى حالة الفعل والحضور.

هذا الانتقال مرَّ في طريق طويلة وصعبة ومضرجة بالدم. إذ ترسخت الهوية ابتداء من الكرامة إلى بيروت وانتفاضتين وعدوانات أربعة كبيرة على غزة وبعيدا عن النتائج لهذه المعارك، لم نتحول كشعب لغبار الأرض، بل تحولنا إلى مدافعين عن قضيتنا.

إن مجمل هذا التاريخ النضالي الطويل ساهم بترسيخ الوطنية الفلسطينية داخل أفئدة أبناء الشعب الفلسطيني وكان آخرها ما حصل في العدوان الأخير على غزة عام 2021 عندما انتفض الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده للذود عن هويته وحقوقه التاريخية والسياسية والدينية بما يوحي بوطنية ممتلئة، تنتقل من جيل إلى جيل حتى وإن غاب الدور التعبوي حاليا للفصائل في الضفة، يبقى شعبنا ينتظر لحظات مواجهة كبرى حتى يعبر عن نفسه وعن هويته، وهذا لا يعني أنها لا تعبر عن نفسها في مواجهات موضعية هنا وهناك، بل على العكس فالمتابع لوضع الضفة والقدس تحديدا في هذه الأيام، يلحظ أن مقابل التصعيد “الإسرائيلي” هناك تصعيد شعبي ومواجهات وشهداء يسقطون باستمرار.

إن الوطنية الكامنة وارتباطها بإرث كفاحي طويل جدلية ستفعل فعلها في تجديد الحركة الوطنية وإعادة بناءها لمن هم قادرون عن فهم هذه الجدلية.

  • الحالة التنموية الاقتصادية

يستشعر المتابع للإحصاءات الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع الفلسطيني مدى سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والتي لا تنبئ سوى بانفجارات اجتماعية وسياسية كما كان الحال في الوطن العربي ابان الموجة الأولى للانتفاضات العربية عام 2011 والثانية 2019، إذ بدى أن عامل الفقر واللاعدالة الاجتماعية من أبرز العوامل التي أدت لهذه الهبات الاجتماعية.

تشير الإحصاءات الفلسطينية الرسمية الى أن نسبة البطالة بلغت عام 2020 حوالي 26% من القوى العاملة، وجدير بالذكر ان جهاز الإحصاء يعرف العاطل عن العمل من لم يعمل أية ساعة في الأسبوع الأخير ومن يبحث عن عمل، وهذا يعني إخراج أعداد كبيرة من بحثوا عن عمل وسئموا البحث من نسبة العاطلين، ومن عملوا يوم واحد من نسبة العاطلين، وهذا يعني انه قد ترتفع هذه النسبة الى 30-35% بحالة شملنا من ذكرناهم، أي ما يقارب 50 ألف عاطل عن العمل نصفهم خريجون جامعيون. فيما في غزة تصل نسبة التعطيل الى 48% فيما الفقر 60%. أما حول عدد العاملين من يتقاضون أقل من الحد الأدنى للأجور أي 1450 حسب إجراء الإحصاء. يصل إلى 103 الاف عامل وهذا يعني 30% من العاملين في القطاع الخاص من أجل نسبة العمالة في القطاع الخاص 81% من قوى العمل، بواقع 655 شيكل شهريا.

أما نسبة مشاركة النساء من سوق العمل تصل 16% في أحسن الأحوال، منهن 31% يعملن في القطاع الحكومي فيما 68% يعملن في القطاع الخاص، الأمر الذي يجعلهن أكثر عرضة للاستغلال المادي بأجورهن. وتشير احدى البيانات أن نسبة انضمام النساء للأحزاب السياسية، أي المؤطرات داخل قوى وفصائل هي فقط 1% من عدد النساء!

أما في قطاع العمال، هناك 20% من نسبة العاملين يعملون في قطاع الصناعة بواقع 113 ألف عامل يعملون بشكل شبه منتظم!

أما عن نسبة العاملين الفلسطينيين في الداخل يتقاضون أجوراً أقل من نظرائهم اليهود بنسبة 60% من أجر المستوطن الصهيوني. مع تفشي واسع للفقر 50% من العائلات العربية في الداخل تحت خط الفقر و40% من الشباب في الداخل ما بين 18-24 لا يعمل ولا يتعلم، علاوة على التفرقة العنصرية والقومية وانتشار المخدرات هناك!

وبالعودة للضفة المحتلة نجد أن نسبة 75% من موازنة السلطة تحول من جيب المواطنين عن الضرائب والجمارك، فيما الجزء المتبقي معونات خارجية، في المقابل لا يجد المواطن الخدمات المستحقة مقابل ذلك كما يجب، علاوة على ذلك الفساد والمحسوبية وخصخصة قطاعات هامة بالنسبة للمواطنين مثل الاتصالات والمواصلات وضعف الدعم للتعليم والزراعة والصحة مقابل توفره للأمن المفقود أساسا والمكرس لخدمة التنسيق الأمني.

المهم بهذه الإحصاءات ليس عرضها، بل كيف نفهمها ونقيم انعكاساتها الاجتماعية والسياسية، وكيف نعمل على توظيفها في خدمة مشروع التحرر الوطني والاجتماعي، فالفقر لا يفضي لثورة بل وعيه، وهذا يجعلنا ندرك أهمية ما هو غائب عن واقع جماهير شعبنا، أي المؤسسة التأطيرية بالمعنى الوطني والاجتماعي – الحزب/الحركة الاجتماعية؟

بذات السياق، نجد أن من أجل 6.5 مليون فلسطيني في حدود فلسطين التاريخية، هناك 2 مليون أعمارهم ما بين 16-36 منهم 200 ألف من الخريجون/ات الجامعيون وما يقارب 200 ألف طالب/ة في صفوف 10-11-12، وهؤلاء قوة تغير جبارة إن ما تم استثمار تعليمهم ومعرفتهم واندفاعهم

إن هذه المؤشرات تقضي بنا إلى نتيجة مفادها انغلاق الأفق التنموي أمام الفلسطينيين بفعل الاستعمار الصهيوني أولا والاستغلال الطبقي والسياسة الحكومية المنحازة لرأس المال ثانيا. مما يجعل جماهير شعبنا مخزن بارود قابل للانفجار بأي لحظة!

هذا العامل الموضوعي الثالث الذي يتفاعل مع العاملين الأولين، سوف يفضي إلى تجدد بالحركة الوطنية باتجاه معين، نظرا لتراكب أشكال الاستغلال وتشابكها.

خاتمة

عام 1967 كنا ثلاثة أرباع مليون فلسطيني ولم نتحول لغبار الأرض، وها نحن اليوم نتجاوز الملايين الستة! قبل عام 1967 لم تكن شرارة الكفاح المعاصرة قد راكمت إرث كفاحي كما هو الآن! وفي حينه لم يكن شعبنا يحوي ما يحتويه الآن من فئات من المتعلمين العمال والطبقة الوسطى، كما أنه قبل خمسين عام كان شعبنا بالداخل مغلوب على أمره مكبوت مقهور محيد، لا كما هو الآن واضح بتعبيره عن هويته الوطنية خاصة في مايو 2021!

إن الواقع الموضوعي يقدم لنا احتمالات وممكنات موضوعية وواقعية للنهوض الوطني وتجديد مشروع التحرر لنفسه، وبشكل أكثر شمولية من السابق. هذه الممكنات تحتاج لفعل سياسي اجتماعي اقتصادي منظم حتى تنتقل من الإمكانية إلى الواقع وتصبح عوامل مواجهة، إن ما حدث في حرب غزة ومعركة القدس الأخيرة من انتفاض لشعبنا ودفاعه عن هويته وحقوقه ما هو إلا بداية لمرحلة جديدة، علينا البدء في التقاط خيوطها والإجابة عن أسئلتها لشعب منقذ من هذا النفق، يقول فيلسوف ” إن طائر منيرفا لا يأتي إلا عند الغسق”.